دولة القانون أم الدولة الوطنية؟

اثنين, 2015-06-01 10:09
 مطاع صفدي

في أوقات الكوارث المصيرية بتراجع التفكير الاستراتيجي. يتعذر الحديث عن الحلول ذات الآجال البعيدة، تحت ضغط اكراهات الواقع المباشر. فتلبية الحاجات الملحة المداهمة بتحديات اخطارها، هي الهم الأول الموجه للحس العام بحثاً عن مسارب انقاذ من المآزق المسيطرة.
غير أنه إن كانت هذه الأوصاف تنطبق بصورة مثالية على الأحوال العربية الراهنة بحيث أنه لم يعد الانشغال بمستقبل «الأمة»، ببقائها أو اندثارها، لم يعد يثير قلق فكر ثقافي أو سياسي متميز أو فاعل، بل هي هذه الحروب الملتبسة المفقّسة لأنواع الفتن القاتلة لأقوى الكيانات الدولتية والمجتمعية القائمة. هذه الزلازل المصطنعة، والدخيلة على قوانين الطبيعة والمضادة لأبسط بديهيات نشوء الأمم وحضاراتها، ومن ثم انحلالها وزوالها. فما تعانيه مجتمعات هذه الأمة الحزينة هو أنها تنتابها أسوأ أمراض وأعراض انحلالها وهي لا تزال في أطوار بحثها عن أولى درجات نهضتها. كأنما تولد بعض مجتمعاتنا، تريد أن تكون جديدة، ولكنها لا تأتي عالمَ اليوم إلا وهي شائخةً هرِمةً موبوءة سلفاً بأقدم علل الإنسانية الهالكة. 
هل حقاً كَفَرَ العرب بمستقبلهم وهم ينوؤون تحت فواجع حاضرهم. لم تعد أية أيديولوجيا، خارجَ الانقياد القطيعي وراء أساطير الغيبيات، قادرة على استنهاض ما تبقّى من قوة العقل الموضوعية لنُخبة ما. قادرة على وقف زحف (الجراد) البشري نحو بؤر المحارق الهائلة التي باتت تغطي مشرق العرب الأصلي من شماله الشامي العراقي إلى يَمَن الجزيرة وربما حتى عمقها الصحراوي.
كل هذا الهول الأسود والأحمر القاني، كل صنوف الشرور المبرمجة همجياً يُعادُ تأهيل مفاعيلها التدميرية وتوزيع خرائطها، فتْحُ وإغلاقُ جبهات هنا وهناك. ذلك أن فظائع الأرض العربية المحترقة تجاوزت مراحل تناسلها صدفوياً من بعضها بعضاً لتغدو ،ومنذ زمن طويل، هي وحدها كأنها المتحكمة في قرارها وتنفيذها. 
وكأنما يراد للعيش في هذه البقعة من العالم إلا تكون للإنسان ثمة حياة إلا وهي مقترنة في كل معانيها وتحركاتها بأكلاف الآمال المحطمة. فقد لن تختفي مصانع الآمال الجماعية سريعاً أو دفعة واحدة، لكن أحداً من رُوّادها أو اتباعها هل سيعود من رحلاتها، من سراباتها، إلا وقد أمسى طللاً من أطلالها، واضح أن التعكير المستقبلي هو من علامات الحضارة المستقرة، تلك التي لا تزال نُخُبُها واعية لمقدراتها، مالكة لعديد الخيارات الممكنة وسواها. أما الحضارة الناشئة فليس لها ترف التأمل في آفاق الغد وهي مكبلة بظروف الواقع القاهر الجاثم على صدرها، ليس لها إلا نوع من أحلام اليقظة فحسب، من شطحات المشاعر الخلاصية، من دون أي رصيد من قوى التحقق والإسناد الفعلي. وهذا ما يفسر عجز ثلاثين أو أربعين عاماً من معارك (الأداليج) اللفظوية التي اختطفت حقبة النهضة العربية الثانية المؤسسة لدول الاستقلال الوطني لأكثر من عشرين كيانا دستوريا معترفا به دولياً.
كان عجز هذه الحقبة المتفاقم عن بناء مشروع الدولة بمعناها الدستوري وخصائصها القانونية هو العلة المستديمة لفشل مصطلح الدولة الوطنية، حسبما كان يفهمه رافعو شعاراتها تكراراً «عقيما» ما بين انقلابيات وثورجيات متصارعة متفانية فيما بينها طيلة النصف الثاني من القرن العشرين الراحل، فقد كانت ثمة هوة سحيقة ما بين مصطلحيْ : دولة القانونْ و»الدولة الوطنية»؛ كان الاهتمام منصباً طبعاً على بناء المفهوم الثاني. فالتأسيس للوطني سابق للتوصيف القانوني. ذلك هو منطق الثورة، حتى وإن بدا منطقاً طفولياً. أما الحقيقة فهي أن عرب المشرق (الحركي) قد فقدوا الدولة في ذاتها ما بين صراع المتصطارعين.
وهكذا ما أن تفجر «الربيع» وتقاذفته سرقاته من كل جانب مشبوه، حتى ترنّح قطراه الكبيران تحت وطأة فوضى بدئيات الاجتماع الإنساني كلها.
ما كان أسرع من تهاوي بناء الدولة العربية في نموذجها الشامي والعراقي مع تمادي عواصف الربيع التائهة. فلقد كان تقلص كيان الدولة دون وساعة مفهوم الحاكمية العادلة والمشروعية العقلانية إلى حدود الوظيفة الأمنية، إلى أجهزة التسلط والقمع، بحيث تفقد الدولة صلاحتها العمومية لتغدو حليفاً تلقائياً لكل من يحتل قمتها، فيضرب هو، المتنفذ الأعلى، بسيفها دفاعاً عن سطوته، وتنطق هي بلسانه. فإن شخصنة الدولة عبر رجل السلطة قد مهد الطريق العام أمام اضمحلال المشروع النهضوي وحرمان البلاد كلية من رهانات خياراتها المستقبلية. ههنا بداية التهلهل المرضي في بنى الدفاعات الطبيعية للمجتمع إذ تنحسر كليات الاهتمامات الجماعية إلى أخص دوافع الأقلويات والمطامع الفئوية.
إن تهجين الثورات وانقــــلاب بعضــــها إلى أعدى أعدائها في أول منعطــــفات الممارسة، قد يمتلك بذوره وينطوي على أخطر مقدمــــاته آتياً وحاملاً لها من العصر الســـابق على الثـــورة نفسها. فأعطال المجتمع قبل الثورة قد تلعب أخطر الأدوار المضارة للثورة، وهي مقنَّعة بشعاراتها، ومحمية بقواها عينها. فالرِدَّةُ سوف تفرز واقعاً يضم شرور الما قبل والما بعد بالنسبة للحدث الثوري. وقد تضلّ الشعوب بوصلة التوجه بين التغيير ونكساته وكثيراً ما يعتقد القوم أنه صاعد في معارج الأعالي في حين أنه موغل في الدياجير الشفافة الخادعة وحدها. هنا «الربيع العربي» العجيب بنقائضه المتزاحمة من كل جهة، على الأقل نقول إنه إذا ما آن له أن ينقضي يوماً ما هل سيخرج من تبقى من هذه الأمة ببعض دروس تجاربه المرة. ولعل أبسطها هي تلك التي لم يعترف بها أجيال من الثوريين وأشباههم. ومنها القليل من الصدق مع النفس. لكن متى وكيف. والأجوبة متروكة لأبطال المحن، يعانون ومعظمهم يصمتون.