من المؤكد ان تعبير الفنكوش معروف لكل من يتابع الأفلام والسخرية المصرية، ولهذا كان من الطبيعي ان يظهر في بعض التعليقات التي ترد على الموضوعات الخاصة بمصر كما حدث مع الموضوع السابق وما جاء فيه من إشارة سريعة لإنجازات عام من حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي. فالتعبير الذي ظهر في فيلم «واحدة بواحدة» عام 1984 تحول لمصطلح مختصر للكثير من الأشياء المتعلقة بالوهم واختراعه وترويجه. ولكن الاقتراب منه طرح معه حديث الشاعر نزار قباني عن وفاة العرب، وعلى الرغم من انه تحدث عن الوقائع التى تؤشر للفجوة القائمة بين وجود الصوت المرتفع وغياب الفعل وما يرتبط به من غياب للقيمة، فإن وفاة فكرة الفنكوش واختراعها قريبة من الحالة المغايرة والقائمة على تأسيس وجود حقيقى للإصلاح أو الديمقراطية المنتظرة ومعها استعادة القيم المهدرة والشفافية والقدرة علي المحاسبة المفتقدة.
يظهر الفنكوش في الفيلم بوصفه سلعة يتم ترويجها وتحويلها لمجال للاهتمام العام بدون ان يكون لها وجود أو نية لتحويلها لمنتج حقيقي، فهي جزء من إعلان يتم تصويره من أجل إرضاء الراقصة التي يعرفها البطل الذي يعمل في مجال الإعلانات. وبهذا يظهر الفنكوش من البداية بوصفه وهما يقدم من أجل الوفاء الشكلى بوعد لا يهدف صاحبه لتنفيذه وان كان يمكنه من تحقيق أهدافه. وعندما يغيب البطل عن عمله تتم اذاعة الإعلان ويتحول لمثار اهتمام لغياب تفاصيل السلعة المعنية وهو ما يقدم نموذجا مهما فى تسويق الوهم وتحويله لكيان مادي فى ذهن المتلقي بقدر ما تسمح به ظروف الفترة الزمنية للأحداث وقبل كل الانتشار المحيط بنا في الإعلام بكل صوره بما فيها برامج التوك شو ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من صور النشر والانتشار التى تمارس دورها فى خلق الوهم كما يمكن أن تساعد فى كشفه والتنديد به وأن اختلفت مساحة الانتشار المتاحة لهم لدى الجماهير.
الاهتمام المتزايد بالسلعة الوهمية «الفنكوش» وما يمكن أن يرتبه الترويج لسلعة غير موجودة من إضرار بالشركة المعلنة يضطر البطل للبحث عن سلعة مادية يمكن تقديمها للتماشي مع الإعلان الوهمي. وحتى يتم إنتاج تلك السلعة يتم تصوير واذاعة مجموعة أخري من الإعلانات ليستمر النقاش وكسب المزيد من الوقت. يصبح الفنكوش المعبر الطبيعي عن بيع الوهم وتفصيله على أي سلعة يتم طرحها في الأسواق وهو ما يوضح ذكاء السياسي فى تجنب المحاسبة عندما يرفض تقديم برامج أو وعود واضحة متمسكا بالمطالبة الجماهيرية وبعدها بالتفويض الشعبي.
مع وضع التطور التكنولوجي والإعلامي فى الاعتبار يمكن إدراك حجم الترويج الممكن للوهم فى الحياة خاصة عندما تغيب المحاسبة ولا يشعر أحد بأن عليه أن يقدم سلعة مادية تتناسب مع الوهم المقدم كما حدث فى الفيلم. فى الواقع تطورت تكنولوجيا نشر الوهم ولم تتطور آليات المحاسبة على نشره ولا القيود التى تلزم بتقديم السلع المادية للوهم الذي يتم ترويجه. ارتبط فنكوش الفيلم بتقديم سلعة مادية في حين تطور فنكوش الواقع بحجم تطور الاعلام والسياسة وصورة الفرعون والحاجة إليها وإلى تغذيتها بعد ثورة يناير/كانون الثاني من أجل إرجاع وتثبيت أسس حكم ما قبلها مع بعض التعديلات التي تهدف لاستبعاد فكرة الثورة وزيادة أسباب كراهيتها. وبهذا تحولنا لمرحلة فنكوش الفنكوش وما بعده. وفي تلك المرحلة لا نتوقف عند حدود ترويج فنكوش واحد، ولكن كلما حان موعد تقديم فنكوش ما قدم فنكوش اخر بسلسلة دعاية وأحلام اخرى. وفي ظل نمو فكرة الفنكوش يصبح من الصعب ان نحاسب وان نقيم ويتحول لفظ ساخر مثل الفنكوش لأداة مهمة في أدامة حالة مقابر الذاكرة التي تحدث عنها جورج اورويل في روايته «1984» والتي تتغذى بدورها على آفة النسيان التي أشار إليها نجيب محفوظ.
تسيطر علينا دائره الفنكوش بصور مختلفة وتطرح بوصفها مقياسا لكل ما يحيط بنا بشكل متزايد بعد يناير حيث يساهم فى تبرير الواقع وتسويق الوهم دون إنكار امتداد حالة الفنكوش التاريخية على مر عقود ما قبل الثورة ودورها فى استقرار النظام وتسكين الجماهير فى انتظار الفنكوش. ولعل أبرز سلع الفنكوش المعروضة علينا تاريخيا مقولة ان الديمقراطية لا تصلح ولا تتوفر لها تربة النمو لدينا أو انها رفاهية لا يجب ان تشغل فكر اللحظة. وضع يمكن تصوره فى ظل أن التربة صالحة لإنتاج الفنكوش في أي وقت وبكل حجم وكمية كما تصلح للتغطية على الفنكوش الأول وإنتاج غيره كلما وجدت الحاجة لهذا. وبدون اعلان وفاه الفنكوش الفكرة يصبح من السهل اعادة انتاج خطاب خطورة الديمقراطية وضرورة القوة والسيطرة مرات رغم تجريب تلك الوصفة وسط فشل واضح وصريح لسنوات.
وفى مرحلة ما بعد الثورة تطرح علينا أفكار متنوعة من عالم الفنكوش ولكن الاختلاف الأساسي يرتبط بدرجه الهجوم أو التسويق المتاحة لها. فى حين تستهدف بعض الأفكار إعلاميا بالنقد كما كان الوضع أيام الرئيس الأسبق محمد مرسي ومشروع طائر النهضة الذي لم يظهر على أرض الواقع، يتم إعلاء وتضخيم أفكار اخرى قبل أن تتوفر لها مصداقية التحقق علي أرض الواقع فى المرحلة التالية عليه بما فيها مرحلة الرئيس السيسي. وفي هذا الإطار ظهر علينا خلال عام جهاز «الكفتة» أو العلاج المعجزة في طرح ضخم واختفى في صمت صاخب. لم يقدم الجهاز علاجا للأمراض التي أعلن انه يعالجها ولم يعالج القدرة على إنتاج الفنكوش فكان معبرا عن الوهم وغياب الشفافية والمحاسبة. ولأن تفريغ القدر وشغل الرأي العام مسألة مهمة من وقت لآخر يخرج من يطالب بالاعتذار لشخصيات بالاسم لأنها هاجمت جهاز الكفتة من البداية وتم انتقادها دون ان يطرح النقطة الأكثر أهمية وهي الاعتذار للشعب وللسخرية التى لحقت به والأحلام التي ولدها والمؤسسات التي وثق بها وحقيقة تلك الثقة.
أما فنكوش اعادة دولة القانون الذي يتكرر الحديث عنه مرارا ومعه خطاب قدسية الأحكام وكأن القانون والمحاكم وجدت لتقديس الحكم وليس لتقديس العدالة وإعلائها والتحقق من الوصول إليها، فهو الأكثر وضوحا في خطاب المرحلة حيث تتحول أحكام القضاء للهدف الذي لا يمس. وبالطريقة نفسها ومن عالم الظلام يطل علينا فنكوش المصابيح الموفرة للطاقة التي تحولت لوسيلة لإعمال تعبير مصر منورة بأهلها وللتوقف عن متابعة الأخبار بما فيها من وهم منير وواقع متعب.
ومن عالم الوهم المنير تظهر مشاريع الشقق السكنية دون أن تترجم لوحدات مليونية كما قيل وتتواضع لأرقام أقل مما أعلن قبل عام، وما أعلن عن تحققه فعلا فيحتاج للبحث عن عدد ما نفذ وما كان متاحا أو في طور الانتهاء منه وتم ضمه لإنجازات العام الرقمية كما حدث من قبل مع أرقام المدارس وغيرها من الانجازات المراد لصقها بالفترة. وإلى جانبها يأتي فنكوش المشاريع القومية التى لا تتوقف أخبار جديدها وكأنها ليست مشاريع استراتيجية وجزء من خطط نمو وتنمية واضحة، في تجاوز لضرورة تناسبها مع متطلبات واولويات المرحلة والمعاناة الداخلية التى يفترض ان تحدد سلم الاولويات وتعيد جدولة تلك المشاريع بشكل يتناسب مع الاحتياجات ومع الموارد اللازمة لتنفيذها ومع القدرة على استيعابها واخضاعها للمحاسبة وليس على طريقة اشغال شركات البناء وعدم وجود عمال والسعادة بتلك الارقام التي تقدم وسط الخطابات الرسمية فى الوقت الذي تظهر فيه المعاناة حقيقية ومحسوسة.
بدورها تنفرد الارقام بمكانها في عالم الفنكوش، فالنظام لا يتوقف عن محاولة تقديم صورة العلم والجدية عبر الأرقام التي يطالب الشعب بحفظها. ولأن التعامل مع الأرقام يتم بوصفها دليل إنجاز فإن إنجازات الرئيس المعلنة في عام وفقا لبيان رسمي تشمل 27 زيارة خارجية بمعدل زيارتين في الشهر تقريبا ويصبح السؤال المهم والمفتقد كم تتكلف تلك الزيارات وحجمها ومن يشارك فيها ودورهم، وما هي الجدوى منها والعائد الحقيقي المترتب للمواطن دافع الضرائب ومتحمل التكلفة. وأن كان يمكن أن تقدم فى إطار أفكار كبرى مثل السيادة والكرامة فكلها أشياء يصعب الشعور بها بشكل حقيقي فى ظل تراجع الحقوق والحريات والكرامة الداخلية.
تبدو الوعود بمثابة وهم معلب لتكرارها وعدم تحققها أو صعوبة تحققها مجمعة، أما الحقيقة المؤكدة فهي حزام الصبر المطلوب شده والمعاناة المطلوب تحملها. ولكن حزام الصبر يتواجد وسط خطاب تسكين الجماهير وهو الفنكوش المتجدد الذي لا ينضب ولا تنتهي صلاحيته ولا تسعى الأنظمة لاختراع أجهزة كفتة للعلاج منه لأن وجوده أكسير حياة لوجودها وغياب الديمقراطية والمحاسبة التي لا تتعايش معها، وربما نشهد فى لحظة إعلان وفاته بداية لميلاد جديد.