وزَارةُ التّعذيب العَالي (رأي حر)

اثنين, 2015-06-08 13:44
عبد الله البو أحمد عبد

(تضامُنًا مع اخوتي وزُملائي الطّلاب)

في سبتَمبر من العَام 2012 وجد نفسهُ ضمنَ قائمَة "المَمنُوحينَ" من الأقسَام الجامعيّة، وتوجّه إلى وزَارة التّعليم العَالي الواقعة بمحَاذاة مبنَى الإذاعة العُموميّة، كان النّهار صيفًا قائظَا، وكانَ حرّ هاجرَة نواكشُوط يلفَحُ الوجُوه. هناك وجد أمامهُ طَابُورًا من الطّلاب من مُختلف التّخصّصات..
كان الجَميع هائمًا، ولا يعرفُ إلى أينَ يتوجّه ولا منْ يسأل. هناك، لا مصلَحة استقبَال ولا استدبَار، ولا أحَد يُجيبُ على سؤالك. كنّا ندخُل مكتَبًا، ونخرُج منهُ، بعد أن سئمنَا أنّ السيّدة الخَمسينيّة التي تتحدّثُ إلى زَميلَتها عن أنْواع الملَاحف التي يُمكنُ ارتداؤهَا في الصّيف، لن تلتفتَ إلينَا أبدًا، خرجنَا إلى المكتَب المُوالي، ولكنّ الرّجل الذي كَان على ما يبدُو مستغرقًا في حَديث غَراميّ عبر الهَاتف، نهرَنا قبل أن يعرفَ ما نُريد..

كانَتْ بعضُ الأبواب مُغلقَة بإحكَام، وكانَ البعضً الآخر مواربًا، وكانَ هُناك نساء بين الأربعين والسّتين، يحتسينَ الشّاي، ويقرمشن البسكويت، ويتحدّثن عن صبَاغة الشّعر، وألوان الحقَائب اليَدويّة، وبُورصة المُهور، وآخر صيحَات الطّلاق..

وكان بعضُ الرّجال العاملينَ يتحدّثُ في الهَاتف، أو يرتشفُ الشّاي أيضا أو يثرثر كيفما اتفق، كل شيء كان يُمكن أن يكون هُناك إلا التّعليم العالي.!
بعد سَاعات من التّيه في دهَاليز المبنَى البدائيّ، والمتسّخ والفوضويّ، قَادنا أحدُ الزّوار (يبدُو أنه طالبُ قديم) إلى مكتَب سيء الإنَارة، به مقعَدُ يتيمٌ ورفّ خشبيّ ألقيّت عليه بفوضويّة عارمة ملفّات، وكتيّباتُ وأكيَاسُ ورقيّة..إلخ
قدّم إلينَا الشّاب الذي كان يجلسُ وراء المكتب، عددًا من الاستمَارات، كان ينبَغي علينَا تعبئتها.. الاسم، العائلة، التخصّص، اختيار البَلد.. إلخ. 
تضمنتْ الاستمَاراتُ أيضًا ملفّا كبيرا عريضًا يجبُ على الممنُوح إحضَاره (وثَائق، كشُوف مصدّقة، صوّر.. إلخ.). كان الوقتُ ضيّقا، وخرجنَا في الثّالثَة ظُهرًا.

بعدَ أسبُوع من الجهَاد والمعَارك كان الملفُّ جاهزًا بالتّمام والكَمال، أودعُه عندَ المصلحَة.. وبعد أسبُوعين خرجَت اللوائحُ النّهائيّة، لتوزيع التّلاميذَ على البُلدان.. لم يجَد اسمهُ في أيّ بلَد..!!!
عبثًا فركَ عينيه واقتَربَ من اللّائحة.. عبثَا. الاسمُ ليسَ هُنا. صعدَ إلى إدارَة المنَح، بابتسَامة صفرَاء أجابهُ المُدير الذي يُداعبُه شاشةَ هاتفه الحسّاسّة: عليكَ أن تذهَب إلى أمريكَا أو إحدى الدّول الأوربيّة، وتحصُل على تسجيلٍ في تَخصّصك، ثم تأتي به إلينَا لتحصُل على المنحَة.. لم يكُن يمتَلكُ 100 أوقيّة للعَودة إلى البيت. أما أوروبّا فبعيدةٌ سَحيقَة.!!!

(بعدَ مرور أشهُر)..

يدخُل نفسَ المكتبْ، حاملًا تسجيلًا في الماجستير والدّكتُوراه في تخصّصه، حصل عليه ـ بقُدرة قَادر ـ من جَامعة أوربيّة عريقَة. يسلّمهُ للسّكرتيرَة. 
ـ ما هذا؟ 
ـ مكتُوب..
ـ أنا لا أقرأ الـ...
ـ طيّب.. هذا التسجيلُ الجامعي الذي كلفتُموني بالحُصول عليه، بخصُوص المنحَة.. 
ـ آآآه.. آآ.. (ذيكْ أوفَات ظَرك، المنح أوفاو ذا العَام، ما تلى خالك شي..) 
(ضاعَ كلّ شيء.. وإلى الأبَد!)
ـ أيو..اشكتلي انتِي.. (تتابعُ الحديثَ مع صديقَتها التي تقضمُ قطعةَ خُبز ذَابلَة. )

‏منحتي‬.

نقلا عن صفجة الكاتب على الفيس بوك