الشيطان ضد الشيطان

اثنين, 2015-06-08 11:38
عبد الحليم قنديل

لا وجود لملائكة في سوريا، وما من طرف يصح أخلاقيا أن تنتصر له في الصراع المسلح الكافر الذي يجري هناك، والذي يحطم سوريا بشرا وحجرا وحرثا ونسلا، وانتهى بنصف الشعب السوري إلى مخيمات النزوح واللجوء والتشرد والعوز، ويهدد النصف الثاني بالمصير المهلك نفسه، ويكاد يمحو سوريا كدولة من خرائط الجغرافيا والتاريخ.
وباستثناء جماعات معارضة وطنية ديمقراطية، لم تنزلق إلى حمأة الصراع المسلح، ولا تورطت في خدمة التدخلات الأجنبية الاستعمارية، وحلمت بسوريا أفضل، تزيح ديكتاتورية عائلة الأسد، باستثناء هؤلاء، الذين لا يكاد يسمع لهم صوت في المزاد المنصوب لتحطيم سوريا، وبيعها بشرا وترابا في أسواق النخاسة الإقليمية والدولية، باستثناء هؤلاء النبلاء، لم يعد من مكان لحديث عن ثورة ولا ديمقراطية في سوريا، فالمتصارعون بالسلاح طبعات وجماعات تتنافس في الوحشية والانحطاط، وجماعة بشار الأسد ليست أكثر سوءا ولا بؤسا من جماعة «داعش» أو جماعة «النصرة» وأخواتهما في «جيش الفتح» أو جيش «القفل».
نعم، سقطت كل أوراق التوت، وجرى الإجهاز على حلم الثورة التي كانت وليدة في سوريا 2011، ولم يزد عمر الثورة الديمقراطية السلمية في سوريا عن تسعة شهورها الأولى، ثم جاء الكابوس المرعب، فقد لجأت ديكتاتورية الأسد إلى خطة هروب من الثورة، واندفعت إلى سيناريو الحرب الطائفية رأسا، واستدعت إلى الميدان جماعات الإرهاب لكي تهدم الثورة، وتحيلها خرابا يبابا. ونجحت الخطة للأسف، وجرى إحلال حرب حرق سوريا محل الثورة، وتحولت سوريا إلى أطلال، وإلى ملاعب مفتوحة لشياطين الإنس والجن، انتهت بسوريا إلى كتلة رماد محترق وإلى خرائط ممزقة، أخذت «داعش» منها إلى الآن نصف مساحة القطر، وفوقها إلى الشمال دويلة أصغر للوحدات الكردية المسلحة، وإلى الشمال الغربي في «إدلب» وبعض «حلب»، جرت إقامة إمارة أو خلافة أخرى لجبهة النصرة، وفي ثياب ما يسمى «جيش الفتح»، في حين تحصنت ديكتاتورية الأسد بدولتها في دمشق وحلب ومدن الساحل وجبال القلمون على الحدود مع لبنان، فيما تبعثرت ملايين الشعب السورى هائمة لاجئة في مخيمات شتات مذل في لبنان والأردن وتركيا، تركوا وراءهم سوريا الجميلة، وقد تحولت مدنها وقراها إلى أنقاض ومصائد موت، وتحول السوريون أكرم شعوب الدنيا العربية إلى أيتام على موائد اللئام.
وتحولت الأراضي السورية إلى مناطق نفوذ أجنبي، ولكل من يدفع ويسلح ويحارب، وتورطت أطراف ودول عربية غنية في الدفع بمئات المليارات من الدولارات، وعلى ظن أنها تكسب دورا ونفوذا، بينما سوريا تنمحى عروبتها الآن، وتتحول خرائط النفوذ الفعلي فيها إلى «التفريس « أو إلى «التتريك». فإيران تدعم وتسلح وتحارب مع جماعة بشار الأسد، وتكسب قواعد نفوذ وسيطرة في الأراضي الموجودة اسما تحت حكم النظام، وتركيا الحالمة باستعادة الإمبراطورية العثمانية، التي سبق لها أن اقتطعت لواء «الاسكندرونة» من سوريا، وضمته إلى أراضيها، تكسب المزيد من الأرض والنفوذ في شمال سوريا وشرقها الآن، وعبر استخدامها لقطع شطرنج من نوع جبهة النصرة وفصائل الإخوان في الشمال، وعبر التفاهمات السرية والعلنية مع جماعة «داعش»، ودخولها المباشر إلى الحرب، ليس فقط بشاحنات نقل السلاح، التي نشرت صورها أخيرا، بل بالضربات المباشرة للسلاح الجوي التركي، التي تستبيح الأجواء السورية بصورة منتظمة، وتوفر دعما وإسنادا قويا لجماعات السيطرة على الشمال السوري، وبهدف ظاهر مزدوج، هو توفير جماعات مسلحة موالية لتركيا تضرب الأكراد، ثم التقدم لأخذ نصيب أنقرة من لحم سوريا الحي، وفي سياق تقسيم سوريا إلى كانتونات، والاستعداد لمرحلة تالية من حروب الإبادة الطائفية الجماعية فيها.
إيران وتركيا هما اللاعبان الرئيسيان في عملية تحطيم وتمزيق سوريا، ولا حاجة لإسرائيل لكي تلعب، فالجوائز تصل مباشرة وبدون عناء لتل أبيب، وكل الأطراف المتحاربة تكن عظيم المودة الظاهرة أو الضمنية لإسرائيل، فإيران التي كانت تحارب إسرائيل عبر حزب الله أو عبر حركة حماس، وجدت ما يشغلها الآن عن إسرائيل، وجندت جهودها وجماعاتها الحليفة للدفاع عن نصيبها في التركة السورية، أما تركيا فطريقها لإسرائيل أسهل، فهي عضو في حلف الأطلنطي الذي تقوده أمريكا راعية إسرائيل، وهي ـ أي أنقرة ـ حليف قديم وموثوق به لتل أبيب، وقد تغيرت السلطة في تركيا مرات، وجاء حزب أردوغان ـ المدعي لصفة إسلامية ـ إلى الحكم قبل عشر سنوات، ودخل في حروب مع الأكراد والأطراف التركية الأكثر علمانية، لكن لا شيء تغير في العلاقة المقدسة مع إسرائيل، فأردوغان لم يطبق الشريعة الإسلامية في تركيا، ولا يجرؤ حتى على الحديث فيها، لكنه لا يخرج «قيد أنملة» عن شريعة خلفاء أتاتورك في إقامة أقوى الصلات مع كيان الاغتصاب الإسرائيلي، ولذلك لا تمانع إسرائيل في تضخم النفوذ التركي على الأراضي السورية، وتعتبر الدور التركى صمام أمان، فلن يعود أحد ليطالب باستعادة الجولان السوري من يد إسرائيل، وجماعات تركيا في سوريا لا تفكر في مناهضة إسرائيل، فهي مشغولة بالحرب الطائفية ضد الشيعة والعلويين، ثم بالحرب بعدها ضد المسيحيين والدروز والأكراد، ثم بحروب لاحقة لا تنتهي ضد المسلمين السنة الذين يخالفونها الرأي والفقه. وهكذا في حروب لا تنتهي إلا بمقتل آخر مواطن سوري، ورفع الرايات السوداء فوق الركام، وبزعم إقامة خلافة هزلية لا تقوم إلا بقتل الناس جميعا، فلم تقتل إسرائيل من السوريين عشر معشار ما قتله بشار الأسد وخصومه من الجماعات المسماة بالإسلامية، وهي جماعات يفني بعضها بعضا، وفي مراحل إفناء تدريجي صارت خطواتها محفوظة، فما يسمى بالجيش السوري الحر مجرد وهم عابر، وجماعات السلاح الموصوفة بالاعتدال مجرد وهم آخر، وقد جاءك نبأ الذين هلكوا من نوع «حركة حزم» و»جيش ثوار سوريا»، وقد أخذ هؤلاء ما أخذوا من مليارات البترودولار، ومن أسلحة المخابرات الأمريكية، ثم كانت نهايتهم السريعة الدرامية بالذبح الشرعي على يد جماعة «جبهة النصرة»، التي تستعد الآن، بالضرورة، لإفناء حلفائها في ما يسمى «جيش الفتح»، في «القلمون»، أو في «إدلب»، أو في «حلب»، وبعد أن تنتهي حاجتها منهم، تصادر أسلحتهم وتقتل أنفارهم، وتقدم نفسها للممولين العرب كجهة أجدر بالدعم، وهو ما جرى ويجري بالفعل، وفي سياق دعاوى تعترف بكون «النصرة» جماعة تابعة لتنظيم «القاعدة» الإرهابي الدولي، لكنها تريد إقناع الأمريكيين بأن «النصرة» جماعة معتدلة، قد يصح جذبها إلى تعاون وثيق مع جماعة الإخوان، التي تملك المال ولا تملك المقاتلين، وجماعة «النصرة» تساير الممولين العرب في أوهامهم، وتأخذ ملياراتهم، وتضيف إليها ما تيسر من السلاح التركي والأمريكي، وتقيم إمارتها على ما تيسر من أرض، وتناهض غريمتها «داعش» الأكثر وحشية، وهنا تصل حرب الإفناء إلى ذروة المواجهة، التي تتفوق فيها «داعش» على «النصرة» كما جرت العادة، وهو ما يجعل السياسة التركية تأخذ بالأحوط، فتقيم صلات مزدوجة مع «داعش» و»النصرة» في نفس واحد، ولكي تضمن خرائط نفوذ مستقرة في الشرق والشمال السوري، بينما تستخدم لافتة «الائتلاف السوري» كمنبر دعائي لا أكثر، وتعرف أن قادة الائتلاف يصلحون للإقامة في الفنادق لا للذهاب إلى الخنادق (!).
المحصلة ـ إذن ـ أننا بصدد عملية إفناء وتحطيم نهائي لسوريا والسوريين، ولم يعد لأحلام الثورة والديمقراطية والعدالة ناقة ولا جمل في ما يجري، فلا فرصة لشيء من ذلك مع توحش «داعش» و»النصرة» وجماعة بشار الأسد، وإحلال شيطان محل شيطان لن يقود إلى الجنة، ولا حتى إلى أمل في مجرد بقاء سوريا موحدة كدولة، وبصرف النظر عن النظام الحاكم فيها، فنحن بصدد هلاك محتوم لو استمرت المسيرة السورية على حالها، وقد جرى تدويل وضع سوريا بين روسيا وأمريكا، وبدون الوصول إلى حل لا يرغبه أحد، فالكل يريد ان تستمر الحرب إلى ما لا نهاية، وهو ما لا يفيد سوى تركيا وإيران كلاعبين إقليميين رئيسيين في سوريا الآن، بينما تلعب أطراف عربية دور الممول للخطة التركية، وبوهم أنها تدفع لردع التوحش الإيراني، وهذه «خيبة بالويبة»، فبوسع تركيا وإيران أن تتفقا في النهاية على خطوط التقسيم وخرائط النفوذ في سوريا الممزقة، وما من حل ممكن سوى بدور عربي يقظ مستقل، لا يقع في خية ومستنقع الحروب الطائفية النتنة، ويقوم على تفاهم مصري ـ سعودي بالذات، يعيد «تعريب» قضية سوريا، ويلم ما انفرط من وحدتها، ويحول دون تفكك الجيش السوري في أي تسوية سياسية مقترحة، فإذا انهار الجيش السورى تنهار سوريا إلى الأبد، وانظروا ـ من فضلكم ـ إلى السوابق واللواحق من مصائر العراق إلى ليبيا.

٭ كاتب مصري