بمرور الايام، يتزايد لدي الاحساس، بالتشابه بين الوضع الفلسطيني والعراقي. كأن سريان القضية الفلسطينية في دمائنا، يجعلنا نعيش يومياتها في العراق، ولعل أحاسيسنا هي ، ايضا، انعكاس لمخاوفنا من ان تهجير الفلسطينيين وصناعة الهوية الزائفة للمحتل، وتكريسها في فترة زمنية قصيرة نسبيا، كان بروفة حية لما يمكن ان يحدث في بلدان عربية أخرى من بينها العراق.
وحين اتحدث هنا عن الاحاسيس والمخاوف فانني اعني ما ينتاب جيلنا الذي تربى على الاعتقاد بأن الظلم الذي اصاب فلسطين أصابنا وأن مفهوم العدالة ثابت ومطلق لا يرتبط بوجود رئيس معين أو حتى زواله. بالنسبة الى العراق نقاط التشابه ، اليوم، كثيرة. فمن الأحتلال الهمجي الى الاعتقالات العشوائية والتعذيب والقتل . ومن التهجير والتغيير الديموغرافي الى نقاط التفتيش وبناء جدار العزل ومنع السكان من العودة الى بيوتهم. ومن يرى تغيير التوزيع السكاني على خارطة فلسطين منذ عام 1947 وحتى اليوم ويقارنها بخارطة « العراق الجديد» وسرعة التغير الديموغرافي منذ عام 2003 وحتى اليوم ، كمؤشر مستقبلي على التقسيم، سينذهل للسرعة القياسية وكيفيته ومدى التشابه الى حد التطابق، احيانا، مع ما رسمه ونفذه الاحتلال الصهيوني.
لقد أراد المحتل الامريكي – البريطاني اعادة رسم خارطة المنطقة ، وكان له في الساسة المحليين أكبر عون، وفي تنصيبه حكومات تضطهد وتقمع شعوبها بينما تبتزهم باسم « المقاومة» و « الممانعة» دفاعا عن فلسطين ، اكبر استثمار يؤهله لأعادة التجربة في بلدان أخرى. الممارسات الصهيونية في فلسطين ، بالنسبة اليهم، تجربة ناجحة تستحق التكرار. فجاء احتلال العراق، كما صرح دونالد رامسفيلد، وزير خارجية امريكا السابق، لأنه : « عمل بالامكان تنفيذه». الا ان مقاومة الشعب للاحتلال حالت دون تنفيذ المهمة « السهلة» ، فتم الانتقال الى الخطوة الثانية: بذر الطائفية وخلطها بالارهاب والعمليات الخاصة وتشويه صورة المقاومة، بالاضافة الى منح أرض بغداد لأكبر سفارة أحتلال بالعالم . واذا كانت فلسطين مقسمة الآن، بين النظام الصهيوني المهيمن و السلطة الفلسطينية على بقعة ارض رمزية وحماس المسجونة في غزة المحاصرة ، فأن واقع الفساد والطائفية ، يشير الى ان تقسيم العراق سيعزف على ثلاثة اوتار، أيضا، هي السنة والشيعة والكرد.
نقاط التشابه لا تنتهي هنا ولا تتوقف عند رسم الخرائط وتوزيعها على المنظمات الدولية التي تعيد تقديمها الى زبائنها من منظمات « المجتمع المدني» التي تعيد، بدورها، تقديمها الى الناس ، لتصبح ، تدريجيا ، الواقع الجديد ، مع اضمحلال وتلاشي الخارطة الاصلية. فالشركات الأمنية الخاصة التي نهبت الملايين وقتلت العراقيين تعمل في الارض المحتلة ، وتدريب القوات الخاصة الامريكية لفرق الموت وما يسمى بالفرقة الذهبية ولواء العقرب والذئب يقابله تدريب القوات الفلسطينية الخاصة . واذا كانت اتفاقية أوسلو قد « نظمت» العلاقة مع المحتل الصهيوني مقابل الفتات، فأن توقيع النظام العراقي للاتفاقية الأمنية ومعاهدة الاطار الاستراتيجي ، المتحكمة بالاوضاع السياسية والاقتصادية والامنية وحتى الثقافية ، منحت المحتل الامريكي مظلة شاسعة للهيمنة لأجل غير مسمى. واذا كانت أرض فلسطين قد أصبحت مستوطنة لكل من تريد اسرائيل جلبه، من أي مكان في العالم ، وحرمان ابن الارض من حق العودة، فأن مليشيات النظام العراقي تمنع النازحين ، المهجرين من مناطق سكناهم بسبب الاقتتال، من دخول مدن بغداد وكربلاء وواسط والديوانية وكركوك، وتعاملهم كأجانب في وطنهم ، في أكثر الاوقات شدة . وهل هناك ما هو أقسى من أجبارك على مغادرة بيتك، خلال ساعات، لتتوجه واطفالك نحو المجهول؟ في ذات الوقت، يدخل الإيرانيون بدون تأشيرة، ولا ضابط على إقامتهم في بغداد وبقية المدن العراقية. ويتمتع الاسرائيليون بذات الحق فيما يخص « السياحة» و « التزلج على الثلج الكردي» كما يذكر الصحافي الاسرائيلي تسفي بارئيل في مقاله المنشور في صحيفة القدس ( الصادرة بفلسطين) نقلا عن « ذي ماركر» يوم 31 أيار/ مايو . يستطرد بارئيل قائلا: « وفقا للموقع الالكتروني الرسمي لوزارة الداخلية الكردية ، فان الاسرائيليين بحاجة الى تأشيرة دخول، ولكن من خلال مكالمة مع موظف في وزارة السياحة الكردية ، فقد أوضح ان بامكان الاسرائيليين ان يتلقوا التأشيرة على المعبر من الجانب الكردي ، وهم غير مطالبين كبقية السياح بالتوجه الى القنصلية العراقية ، فهم مرحب بهم».
هناك ، بالاضافة الى نقاط التشابه ، مفارقات عديدة تبرز حالما يدقق المرء بين القوى المسيرة لحال البلدين. فأمريكا هي الذراع الطولى لأسرائيل، أو العكس بالعكس، لكثرة تداخل المصالح بينهما . في ذات الوقت تدعم أمريكا النظام العراقي ومعها ايران التي ترى في أمريكا واسرائيل الشيطان الأكبر بينما تمتد ذراع اسرائيل ، خفية/ علنا عبر عقود النفط وتصدير السلاح والعتاد الحربي والتقني من إسرائيل إلى العراق عبر اقليم كردستان ، وتشير اللقاءات بين نتنياهو ونجرفان برزاني ( دورية مدل أيست كوارتيرلي – ربيع 2014) الى ان التمدد الصهيوني بات فعلا لا يستدعي الغضب أو الاستنكار.
واذا ما عدنا الى المحافظين الجدد ومشروع القرن الامريكي الجديد الذي كان وراء غزو واحتلال العراق لوجدناه معجونا بصهيونية المحافظين التي يفتخرون بها، ويعتبرونها دافعا لامثيل له لتطبيق مشروع الهيمنة العسكرية الامريكية والقضاء على اي معارضة للسياسة الاسرائيلية. فهو مشروع مبني على تفتيت المنطقة الى دويلات أثنية ودينية والادهى من ذلك، كما نرى من تطبيقه في العراق، الى دويلات طائفية.
ان ردود أفعال الفلسطينيين ، منذ النكبة وما قبلها بعقود ، وكذلك العراقيين منذ الاحتلال وما قبله بعقدين ، على الرغم من الصورة المتشائمة ، أحيانا، أعاقت حتى الآن ما يوصف بسهولة تنفيذ مشاريع الاحتلال . فالمقاومة مستمرة وعلى مستويات عدة من المقاومة المسلحة الى الثقافية الى المجتمع الأهلي والتشبث بالارض والبيت. واذا كان الكيان الصهيوني – الأمريكي قد نجح في تغيير ملامح خارطتي فلسطين والعراق ، فإن مستويات مقاومة المحتل في كلا البلدين، وبدعم شعبي من بلدان عديدة، تستحق ان تكون لها مواقعها على خارطة توزع في جميع ارجاء العالم. فواقع الشعبين يقول: صحيح اننا لم نحقق الانتصار الذي نطمح اليه بعد، الا اننا لن نندحر .