«أزمة.. أي أزمة؟». هذه الكلمات الثلاث أسهمت في سقوط حكومة رئيس الوزراء البريطاني جيمس كالاهان عام 1979 وأصبحت جزءا من الفولكلور السياسي في بريطانيا. مختصر القصة أن بريطانيا كانت تعيش في أواخر عام 1978 وبدايات عام 1979 واحدة من أسوأ أزماتها السياسية والاقتصادية، وذلك بسبب الإضرابات الاحتجاجية على سياسات الحكومة والضائقة الاقتصادية التي شلت البلاد تماما فيما صار يعرف بـ«شتاء السخط» أو شتاء الغضب كما يسميه البعض. ترك كالاهان البلاد غارقة في الأزمة وتوجه لحضور قمة اقتصادية في غواديلوب في جزر الهند الغربية، وعندما عاد سأله الصحافيون عن الأزمة، فقلل من شأنها وقال إن الناس في الخارج لا يرون أزمة خانقة في بريطانيا. في اليوم التالي اختارت صحيفة «الصن» الشعبية عنوانا رئيسيا لخصت به تصريحات كالاهان هو: «أزمة.. أي أزمة». بعدها بأشهر قليلة سقطت الحكومة، ودخلت تلك الجملة التاريخ السياسي لبريطانيا.
الغرض من هذه المقدمة هو القول إنه عندما يصر السياسيون أنه لا توجد أزمة، فمعناها أن هناك أزمة. وعندما نسمع اليوم تصريحات تنفي وجود أزمة بين الدول العربية وإدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، فإن ذلك يؤكد أن الأزمة أعمق مما نسمعه. هناك أكثر من قضية وسبب وراء الأزمة لكن ربما كان أبرزها الاتفاق-الصفقة المتعلق بالملف النووي الإيراني. فهناك شكوك عربية، وخليجية على وجه الخصوص، بأن أميركا أدارت ظهرها للعرب، وبدأت توجه بوصلة العلاقات والحسابات نحو إيران، وأن ذلك سيدشن مرحلة جديدة في التحالفات وسينتج عنه تأجيج الصراع الإقليمي. مسؤول خليجي لخص الأمر بقوله «إن أميركا باعتنا، وبثمن رخيص».
لكن الدول الخليجية ليست وحدها التي فقدت الثقة بـ«الحليف» الأميركي، لأننا إذا تمعنا في كل الملفات المطروحة من الأزمة السورية، إلى الأوضاع في العراق وليبيا واليمن، إلى الموقف من ملف الإخوان المسلمين، والقضية الفلسطينية المنسية، سنعرف حتما أن مشاعر الريبة والشك باتت هي المسيطرة على نظرة العرب إلى السياسات الأميركية. حتى في موضوع حرب الإرهاب هناك تباينات مع واشنطن على المستوى الرسمي، وشكوك على المستوى الشعبي.
إدارة أوباما حاولت تهدئة الخواطر عبر اللقاءات أو التصريحات التي كان من بينها المقابلات التي أجراها الرئيس الأميركي مع وسائل إعلام عربية منتقاة قبيل القمة الأميركية – الخليجية في كامب ديفيد. المفارقة أن أوباما أدلى أيضا بأحاديث في وسائل الإعلام الأميركية كان من بينها حديثان لافتان مع صحيفة «نيويورك تايمز»، ومع مجلة «ذي أتلانتيك»، ربما أسهما في تغذية الشكوك. دافع أوباما بشدة عن الصفقة النووية مع إيران وقال «إن عليها اسمي»، وعن العلاقات الاستراتيجية القوية مع إسرائيل والالتزام القاطع بأمنها وبتفوقها العسكري، ووجه «نصائح» وبعض الانتقادات للدول العربية. وشدد كذلك على أن الدول العربية القادرة عليها تشكيل قوات مشتركة للتدخل في أزماتها.
الرسالة أن أميركا لا تريد القتال نيابة عن العرب في كل أزمة، وأنها لن تتدخل إلا إذا كانت مصالحها مهددة. والرسالة أيضا أن أميركا تعبت من استنجاد العرب بها في كل أزمة، ودعوتها للتدخل وإرسال قواتها، لا سيما أنه بعد كل تدخل تعلو الأصوات الناقدة لأميركا، وتنمو تيارات التطرف. والرسالة أيضا وأيضا هي أن مصالح أميركا في المنطقة تغيرت ولم تعد كما كانت خصوصا بعد التحولات في مجال الطاقة والنفط.
العرب أخطأوا مرتين. مرة لأنهم غلبوا العواطف في حسابات السياسة، وغضوا النظر عن القاعدة التي صكت في الغرب بأن السياسة ميكافيلية وتقوم كذلك على مبدأ أنه لا صداقات دائمة، بل مصالح. والمرة الثانية لأننا لم نقرأ مواقف وتصريحات أوباما جيدا أو لم نأخذها على محمل الجد. فالرجل صرح مرارا منذ بداية ولايته الأولى بأنه عازم على تحسين العلاقات الأميركية – الإيرانية. وخلال أول عامين من رئاسته كتب رسالتين إلى المرشد الإيراني علي خامنئي، كما حرص على مخاطبة الشعب الإيراني في عدد من المناسبات وفي كل احتفال بالسنة الإيرانية موجها التهنئة أيضا في بعض الأحيان إلى القيادة الإيرانية. وفي رئاسته الثانية جدد عزمه على الوصول إلى حل-صفقة في المفاوضات النووية.
إلى أين نتجه من هنا؟
ليس مطلوبا إحداث قطيعة مع أميركا أو وضع العلاقات معها على الرف كما ينادي بعض المغالين، فهذا سيكون خطأ آخر كبيرا. فالعلاقات فيها خلافات مثلما فيها نقاط التقاء ومصالح مشتركة، وسيكون العرب قد استفادوا من أخطاء كثيرة إذا وضعوا المصالح فوق العواطف في مجال السياسة الخارجية، وإذا اتبعوا أيضا قاعدة تنويع العلاقات في السياسة والاقتصاد. في موازاة ذلك من المهم للعرب أن يتذكروا أن ضعفهم وتشتتهم هو الذي يجعلهم ضعفاء في نظر الآخرين.. وهذا هو المحك والدرس الأهم في تقديري.