كان من الكوارث المفاهيميّة أن ترجم البعض كلمة "الجهل" الحسانية إلى كلمة "الجهل" بالفصحى. وليست الأخيرة غير علمنة للأولى. فالجاهل بالحسانيّة ليس الذي تنقصه معرفة عن الشيء؛ بل الذي ينقصه العمل بالشيء أيضاً. ولذا ترتبطُ الفضيلة في الحسانية بالمعرفة. وليس هذا شرطاً خارِجها. وكانط علّمَ أن الأخلاق مستودعٌ في كلِّ أحد من خلال المبادئ النوعية.
الجاهل في الحسانيّة هو غير المبالي بالدِّين، وليس فقط غير العارِف له. فالدِّينُ معلومٌ بالضرورة؛ ومتروكٌ بالجهل. والجهل، هكذا، في الحسانيّة هو عملٌ قصدي؛ أما في الفصحي فهو وبال غير قصدي. الجهل بالفصحى هو شيء يحدث لنا؛ أما بالحسانيّة فهو شيء نفعله. ويمكن، في هذه الحال الفصيحة، لوم الذات، وفي مرحلة متأخرّة الأسرة والمجتمع (أي الدولة عند الاشتراكية)، عليه.
والجهلُ بالحسانيّة أيضاً هو الاستبداد أما العِلم فهو التجرُّد والحِفظ. ولهذه الأسباب فإن مفهوم "الجهل" في الحسانيّة تطوّرَ وأخذَ معناه في إطار النقد السيمانطيقي، ولكن السيّاسي والتندري، لشرتات، أي بنو حسّان. وسرعان ما صارَ للجهل هوية مضاربيّة وتمّت جغرفته. باختصار صارَ العلم سمتاً زاوياً؛ وصار الجهل سمتاً معقلياً. أما في مؤخرة المضارب فلا تُعطي النظرية البيضانية حقّ المعرفة للفنون والممارسات عند الإيغاون والحرفيين والمُستعبدين، أصحاب الفلكلور الغني.
ولهذه أسباب فالنظرية المعرفية الحسانيّة (وهيغل يُعلِّمنا أنه لا يجب أن تكون هنالك نظرية معرفية مكتوبة لتكون هنالك نظرية، فالنظرية قائمة في الثقافة) قائمة على ربط المعرفة بالهوية القبليّة وبالممارسة. وبهذا المعنى فهي تحملُ ضيماً ضدّ الأشكال المعرفيّة غير المألوفة وتقديساً للأشكال الحِفظيّة الباليّة.
وما هو أهم، النظرية المعرفية الحسانيّة قائمة على ربطِ المعرفة بالممارسة؛ فالغلط في الحسانيّة ليس غلطاً معرفياً بل هو ممارسة استبدادية. والغالِط هو المتكبِّر، المتعالي، والمتجبِّر. إنّها، مرةً أخرى، انتقاداتٌ باطنية لبني حسّان، وقد خُصخِصت وعُلمِنت إلى السياسة المضاربية والحياة اليومية.
ولهذه الأسباب سُيِّسَ مفهوم "الجهل" وضاعَ من الممارسة. ولم يعد يمكن للصوفي استخدامه، لأنّه، وهو يُحقِّرُ ذاته وينفيها في مقام الذّات العلِيّة، لا يقدرُ أن يصف نفسه بـ"العبد الجاهل"، على وزن "العبد الحقير" أو "العبد الفقير"، لأن "العبد الجاهل" بالحسانيّة هي بالذات عكس "العبد الجاهل" بالفصحى. الأخيرُ محرومٌ من المعرفة؛ أما الأخير فهو متعاليٌّ عليها.
عن العبد الجاهل (بالفصحى)
نقلا عن صفحة الكاتب على الفيس بوك