ترى أين المكان الذي لا نجد فيه الشرفاء ؟

أحد, 2015-06-14 12:07
الأستاذ محمدن ولد محمد خيرات

أين المكان الذي لا نجد فيه الشرفاء ، عبارة إستوقفتني و أنا أقرأ فقرة من كتاب (القبائل البيظانية في الحوض و الساحل الموريتاني ...) للرحالة و الباحث الفرنسي : بول مارتي ، الذي ترجمه أستاذنا الكبير محمد محمود ولد ودادي . فبعد أن تطرق للحديث عن قبائل الكلاكمة و إجمان و بعض الأفخاذ الزاوية الأخرى و التي ينتسب الكثير منها إلى النسب الشريف يصل به الحديث إلى مجموعة ( النمادي ) فيقول : الذين يؤكد بعضهم أنهم من الشرفاء ( و يردف ) ترى أين المكان الذي لا نجد فيه الشرفاء ؟
و إن كان باعث هذا السؤال عند الكاتب نابع أساسا من نمط حياة أؤلئك القوم أصحاب الكلاب الضامرة، الغريبين في نمط حياتهم وعيشهم عن بقية المجموعات التي سكنت هذه البلاد ، إذ كان اعتمادهم الكلي على صيد و قنص كل أنواع الحيوانات البرية بطريقة المطاردة إضافة لبعض السلوكيات الغريبة ، مماكان سببا للنظرة الدونية لهم .
لكن التساؤل رغم ذلك يبقى وجيهاً إلى أبعد الحدود ، فقل أن تسلم قبيلة من القبائل الموريتانية من دعوى النسب الشريف ، لتحطم البلاد الموريتانية بذلك الرقم القياسي بين جميع الدول العربية و الإسلامية في حيز من ينتسبون إلى آل البيت أو كبار الصحابة ، كما لو كانت هذه البلاد هي الملاذ الذي فزع إليه الشرفاء و أبناء كبار الصحابة و إحتموا به دون بلاد الله كلها .
لا نرمي من خلال هذا الحديث إلى التشكيك في صحة أنساب القبائل الموريتانية ، و كيف يستقيم ذلك ؟ بل على العكس نؤكد إنطلاقا من تواتر العديد من كبار العلماء و النسابة و اهل الفضل الذين يستحيل تواطئهم على الكذب سلامة و دقة بعض شجرات الأنساب تلك و وضوح تسلسلها و صراحة انسابها .... لكن لكي ندرك حجم الظاهرة جدير بنا أن نتسائل : ترى ماذا حدث  لقبائل صنهاجة التي ظلت لقرون صاحبة السيادة في هذه القفار بلامنازع و من عايشها من البربر ...؟ ؟
و نجيب إستباقيا : ان صنهاجة لا تزال بنفس الوزن الديمغرافي الذي كانت به ، لكنها في الغالب تحت مسميات مستحدثة .
لقد شهدت الهياكل الإجتماعية على مدى قرون و عبر مسار معقد العديد من التغيرات التي لم تكن بحال مقطوعة الصلة عن فضاء الغرب الإسلامي ، الذي تحول فيه الشرف إلى ظاهرة إجتماعية خاصة في عهد دويلات بني مرين في المغرب و الحفصيين في تونس و بني عبد الواد في الجزائر ( ق : 13 م . 14 م )، تلك الدويلات التي إنتهجت سياسة تقريب و محاباة للأشراف عن طريق العديد من الإمتيازات ، و قد كان باعث نزعة تقريب الادارسة و اشراكهم في الحكم لدى المرينيين خصوصا هو لإكتساب الشرعية  و تخوفا من تنامي نفوذ الصوفية الذين كسبوا الكثير من الانصار بإستمالتهم لآل البيت و الدعوة الى حبهم و تقديرهم .
و بفعل إنتشار ظاهرة إدعاء الشرف و سوء تصرف العديد من أشراف فاس في فترة تنفذهم و نفور الناس منهم بفعل ذلك ، بدأت تطرح الكثير من علامات الإستفهام حول مدى صحة بعض تلك الأنساب و سبل التعامل مع الاشراف الذين كانوا يحاطون بهالة من التقديس و الاكبار ، من ذلك مثلا مادار بين الإمام المقري (ت: 758هـ) و نقيب الأشراف عندما دخل هذا الأخير على السلطان أبي عنان المريني و كان المقري حاضرا فرفض الوقوف له ، فإستنكر النقيب ذلك الموقف ، فرد عليه المقري قائلا : (... أما شرفي فمحقق بالعلم الذي أبثه و لا يرتاب فيه أحد ، و أما شرفك فمظنون و من لنا بصحته منذ أزيد من سبعمائة سنة ؟ و لو قطعنا بشرفك لأقمنا هذا من هنا _ و أشار إلى السلطان _ و أجلسناك مكانه ) . و هو موقف شاذ نظرا للمكانة المعروفة للأشراف الأدارسة خصوصا ،و هذا ماعبر عنه العلامة المؤرخ إبن خلدون حين تحدث عن الأشراف الأدارسة في المغرب إذ يقول : ( ان نسبهم قد بلغ من الشهرة و الوضوح مبلغا لا يكاد يلحق أو يطمع أحد في دركه ........ و يقول : فليس في المغرب فيما نعلمه من أهل هذا البيت الكريم من يبلغ في صراحة نسبه و وضوحه مبلغ أعقاب إدريس هذا من آل الحسن ) .هـ ، (لكن إدعاء هذا النسب الكريم دعوى شرف عريض على الأمم و الأجيال ، فتعرض فيه التهمة ) على رأي إبن خلدون ايضا .
و لو عدنا إلى المنكب البرزخي على حد تعبير الشيخ محمد المامي يمكن أن نقول أن إستشراء تلك الظاهرة كان وثيق الصلة بما جرى في بلاد المغرب من تطورات ، فقد تكونت العديد من القبائل حول بعض الشرفاء أو الصالحين الذين وصلوا إلى هذه الأرض في فترات متقاربة نسبيا ، كما غذى هذا التوجه أيضا  انتشار الطرق الصوفية ، و تقديس تلك الطرق للشرفاء ، لكن توهم إنتماء القبيلة كلها إلى ذلك النسب و محاولة إستغلال تلك المكانة في مجتمع شديد الإحتفاء بالدين و الشرف كانت هي سر الخلط و سبب التشويش و التشويه الذي طرأ على شجرات الأنساب ، بل لا يستبعد أن يربط المجتمع كل من ظهرت على يده الخوارق و أمارات الصلاح يهذا النسب و يسمه بتلك الصفة بلا بينة أو دليل .
هكذا إتسع نطاق المنتسبين للشرف دون ضابط صارم بين الأصيل و الدخيل .
...................................................... دام عزكم