نشأنا في المجتمع الجزائري وهو يبجّل التفوق الدراسي والشهادات العلمية إلى حد التقديس. في 1985، وعندما نجحتُ في امتحان البكالوريا كدتُ أُحمَل على الأكتاف ويُمشَى بي في الشوارع، واحتفت بي عائلتي والمقربون احتفاءً لن أنساه.
كانت البكالوريا أنذاك مفتاح الجامعة والنجاح في الحياة لاحقا. نجحتُ فيها والآلاف أمثالي دون أن يجرؤ أحد منا على التفكير في الرهان على غير كفاءته وتحصيله العلمي.
ذلك كله ولّى الآن، فأصبح هناك من ينتهك حرمة هذا الامتحان ويمس قدسيته.. بالغش والتحايل.
اليوم هناك في الجزائر مَن يجرؤ على التفكير في الغش في امتحان البكالوريا. بل هناك من تجرأ على المضي من مرحلة التفكير إلى مرحلة الجرأة على الفعل. ولسوء الحظ، أصبح الحديث الأبرز المرافق لهذا الامتحان سنويا، حديث الغش والتزوير وطرق فعل ذلك، ومَن غشّ وكم عددهم.
بالمقابل، هناك عجز الحكومة بأجهزتها على التصدي لهذه الآفة. مستوى أول يتمثل في العجز عن التصدي لجرأة الفكرة، ثم آخر يتمثل في العجز عن التصدي للفعل بشكل رادع.
لا بد أن خللا ما أصاب هذا المجتمع حتى يتجاوز هذه الخطوط الحمر. أتقبل بصعوبة شديدة أن يجرؤ بعضهم على الغش، ثم يجرؤ على الخروج للشارع مطالبا بما يعتقد أنه حقه كأن شيئا لم يحدث!
في دورة هذا العام والتي جرت الأسبوع الماضي، سمع الجزائريون كلاما كثيرا في وسائل الإعلام عن استعمال وسائط التواصل الاجتماعي في تسريب الأسئلة إلى الخارج لتلقي الأجوبة عليها عبر صفحات في فيسبوك.
وسمعوا حديثاً كثيرا عن استعمال تقنيات الهواتف المحمولة الذكية في التحايل على الأسئلة والأجوبة. وأدلت وزيرة التعليم بأكثر من تصريح، وعقدت مؤتمرا صحافيا طويلا، لا لتشرح أهمية الامتحان وما يحيط به من ظروف، بل لتناقش الغش والغشاشين وتُسأل إن كانت هي المستهدفة من نشر الأسئلة أم لا.
في امتحان هذه السنة أعلنت وزارة التعليم حصر 450 حالة غش. لكنها تعمدت إغفال الحديث عن الجو المسموم الذي جرى فيه الامتحان والإرباك الذي عاناه التلاميذ النزهاء جراء هذا الجو.
لا تفسير لديّ لـ»التقنيات» المستعملة في الغش، والجرأة على «الاستفادة منها»، سوى أن المجتمع بات أسرع وأكثر تطورا من أجهزة الدولة: فتيان وفتيات في سنّ المراهقة وبلا ذكاء خارق أعدّوا العدّة ـ التقنية والتكنولوجية ـ لهذا الامتحان، واستعدوا نفسيا وباشروا الغش والتحايل، بينما الحكومة بأجهزتها وما لديها من أدوات ولوجيستيك عجزت عن استباق الموضوع ثم عجزت عن مواكبته لحظة حدوثه، وهي الآن عاجزة عن حله.
كل ما في الأمر أن قالت الوزيرة السيدة نورية بن غبريت في ذروة الغش والفوضى، أن نيابة محكمة العاصمة فتحت تحقيقا ابتدائيا، وأن امتحان سنة 2016 سيشهد إجراءات تحول دون تكرار ما حدث هذه المرة.
لعل الوزيرة نسيت أن ذات النيابة في ذات المحكمة فتحت السنة الماضية ذات التحقيق، فلم يسمع أحد بنتائجه. ولعلها نسيت أن الذين سبقوها للوزارة قالوا الكلام نفسه العام الماضي والذي قبله. ولعلها نسيت أن مَن غشّوا السنة الماضية وأُمسِكوا فعوقبوا، تظاهروا لاحقا في العاصمة مطالبين بالإنصاف، وأولياؤهم ناشدوا رئيس الحكومة أن يغفر لهم «لأنهم لم يقترفوا شيئا يستحق العقاب المشدد»، فاستجابت الحكومة.
لا بد أن خللا فادحاً اصاب هذا المجتمع حتى يغيب فيه الاحترام بهذا الشكل الفج: لا التلميذ الغشاش احترم ما حوله، ولا العائلة استحت ولا الحكومة احترمت نفسها. لم يبق إلا أن يشكل الغشاشون نقابة تدافع عن حقوقهم ويطلبون تسجيلها في وزارة الداخلية، فتسجلها.
تردي أداء أجهزة الدولة يجد تفسيره أيضا في أخطاء حملتها أسئلة الامتحان (وهي ليست أول مرة)، إذ كيف تقبل وزارة التعليم لنفسها أن تشرف على امتحان مصيري تُنسب فيه قصيدة للشاعر نزار قباني إلى الشاعر محمود درويش؟ ثم تخرج الوزيرة في الشاشات لتقول إنه خطأ غير مقصود (طبعا كل الأخطاء غير مقصودة ولذا سُميت أخطاء!)، وأنه لا يضر سير الامتحان.
هذه آخر علامات التردي الأخلاقي، وإشارة قوية على المكانة التي بات يحظى بها العلم والتعليم في المجتمع بعد أن سيطر عليه وقولبه الجهلة وحمَلَة أكياس الأوراق النقدية وتجار السوق الموازية.
كما أنها إشارة على فشل حكومي بلغ درجة العجز عن تنظيم امتحان مصيري كالبكالوريا. وإشارة على درجة الذعر الذي يصيب الحكومة من المجتمع، فهي تخشى كل الناس والفئات وتتوقع أن تتحوّل مطالبهم الفئوية، مهما كانت هزيلة وغير واقعية، إلى حركة اجتماعية تأخذ حجما أكبر فتضطر اجهزة الدولة إلى مواجهتها في الشارع.
عدا هذا لا شيء يبرر «طيبة» الحكومة وأجهزتها تجاه تلميذ يجرؤ على انتهاك حرمة امتحان مصيري، ثم يجرؤ على التظاهر في الشارع شاكيا «مظلمة». هي حالة يرثى لها، المؤلم فيها أن البكالوريا، أجمل ما بقي للمجتمع، تحتضر.. لكنها النتيجة الطبيعية لانهيار قلَبَ سلَّم القيم رأسا على عقب، فلكم أن تتخيلوا كيف تغيرت المواقع.