اليوم هو غرة رمضان من عام 1436 هجري، وأستبشر كثيرا بالشهر الفضيل. لسببين، الأول عام، وهو أنني مثل عامة المسلمين، هو لنا شهر الصيام والقيام، شهر القرآن وليلة القدر والاستغفار، شهر التسامح والتراحم، وقهر النفس الأمارة بالسوء، وتكبيل الشيطان. وهو شهر الانتصارات الكبرى، من بدر الكبرى وفتح مكة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، إلى عشرات الانتصارات على مدى السنين، وعلى امتداد القارات في حروب ومواقع كثيرة ما بين عين جَالُوت، والبوسنة، والقرم، والأندلس، وحتى بلاد السند والهند.
السبب الثاني خاص، وهو أنني، في العاشر من رمضان عام 1339 هجري، أي منذ 43 سنة هجرية، و42 سنة ميلادية، كان لي شرف المشاركة في حرب من أشرف وأعز حروب الأمة في الزمن المعاصر، وهي آخر حروبها التقليدية على مسارح العمليات ضد العدو الإسرائيلي. وكان قدري، بحكم رتبتي وتأهيلي في ذلك الوقت، رائد أركان حرب، أن أكون ضمن صفوف المقاتلين في إحدى فرق المشاة المكلفة باقتحام قناة السويس ودفاعات خط بارليف الحصينة شرق القناة، وهي فرق المشاة الخمسة التي أطلق عليها الخبراء العسكريون في العالم اسم The great famous five infantry divisions (فرق المشاة الخمس العظيمة والشهيرة).
لن أتعرض لتجربتي الشخصية، بل لحالة الحرب، الجولة العربية - الإسرائيلية الرابعة، أو حرب أكتوبر، وأفضل استخدام اسم حرب العاشر من رمضان، وهي أول حرب في إطار الجولات العربية – الإسرائيلية، تجرى في إطار تنسيق جيد ودقيق بين دولتين عربيتين، هما مصر وسورية، على الرغم من عدم وجود اتصال جغرافي، أو عملياتي، بين جبهتي القتال، وهو ما ترتبت عليه التباسات ومشكلات لاختلاف وتيرة العمليات بين الجبهتين. وهي أيضاً أول حرب لا تحمل شعارات رنانة، مثل تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، أو إلقاء إسرائيل في البحر، أو حتى إزالة آثار عدوان يونيو 67، وتحرير كل الأرض التي تم احتلالها في تلك الحرب. ولكنه كان هدفا ملموساً شديد الوضوح والتحديد، وهو ".. كسر وقف النار الذي كان سارياً طبقا لمبادرة روجرز، واقتحام قناة السويس ودفاعات خط بارليف شرق القناة، وهزيمة التجمع الرئيسي للعدو شرق القناة، وتحرير الأرض بعمق 10- 15 كم شرق القناة، والاستعداد لتطوير الهجوم شرقا طبقا للموقف..".
ذلك كان مضمون المهمة، وهو يعني، بوضوح تام، تجاوز حالة الانكسار التي خيمت على الجيش والشعب في أعقاب هزيمة يونيو 67، ومواجهة العدو "الذي لا يقهر" في معارك مباشرة، على مسرح عمليات محدد، وهزيمة آلته العسكرية، وتحقيق النصر عليه، على مرأى العالم ومسمعه، ثم تثبيت هذا النصر على ساحة القتال، والاستعداد لجولة تالية. بالطبع، بعد الإعداد والاستعداد لها. وأعتقد أن مهمة الجيش السوري على جبهة الجولان لم تكن تختلف كثيراً، في جوهرها، عن مهمة الجيش المصري على جبهة القناة.
هنا بيت القصيد الذي لا يلتفت إليه كثيرون، عند تقييم تلك الحرب ونتائجها. لأن المؤكد أنه لم يكن يدور في خلد أي مقاتل في الميدان، ولا أي مواطن في الجبهة الداخلية، أن تلك الحرب ستكون آخر الحروب مع العدو الإسرائيلي، على الرغم من أن هذه المقولة وردت على لسان الرئيس أنور السادات، في سياق إدارته ما تعرف بعملية السلام، ما دفع كثيرين إلى تقييم نتائج تلك الحرب، على أساس ما تم إنجازه في إطار أن الهدف كان إزالة كل آثار العدوان، وتحرير كل الأرض المحتلة، بل وتحرير فلسطين، وهو ما لم يتحقق.
ما حققه المقاتل العربي، المصري والسوري، ومن التحق بالمعركة من دول عربية أخرى، هو بالمقياس العسكري الأكاديمي، وفى إطار الهدف الذي كان محدداً لتلك الحرب بدقة، هو بالتأكيد أحد الانتصارات الرمضانية الكبرى، والتي علينا أن نعض عليها بالنواجذ، ونستعيدها إلى الوعي، والوجدان العربي، باعتبارها جولة ناجحة، كان يجب أن تعقبها جولات، وعلينا الحذر، كل الحذر، من الدعوات الخبيثة التي يقف خلفها العدو الإسرائيلي، وآلته الإعلامية الصهيونية، في أنحاء العالم، والتي ينخدع بها بعضهم للأسف، وتسعى إلى التقليل من إنجاز المقاتل العربي، بل والذهاب إلى حد إهدار كل إنجازه وتحويله إلى هزيمة.
ومن دون الدخول في تفاصيل عسكرية احترافية كثيرة، ومنعاً لمزايدات بعض الهواة، وأصحاب الهوى، فإن المقاتل العربي، ولأول مرة في تاريخ الصراع العسكري مع العدو على مدى 25 سنة منذ الجولة الأولى عام 48، يدخل في معارك تصادمية مباشرة معه، يقتحم حصونه، يدمر دباباته ومدرعاته، يسقط طائراته، يقتل ويأسر قواته، في مشهد غير مسبوق على مرأى ومسمع العالم الذي تسابقت أدواته الإعلامية في تصوير وتسجيل ذلك كله، وبثه ونشره.
تمكن العدو من تحقيق أهداف تكتيكية في ميادين القتال، لكنها جاءت بعد فوات الأوان، وأخذت طابعا تلفزيونياً أكثر من كونه عملياتياً، لأن الهدف العملياتي، وهو تحقيق الهزيمة العسكرية للتجميع الرئيسي لقواته كان قد تحقق.
كانت حرب العاشر من رمضان انتصاراً حقيقياً للمقاتل العربي، أثبت فيها أنه قادر على التخطيط، والتنظيم، وإدارة الحروب ذات الطابع المتناسق على امتداد مسارح العمليات، وإنه، وهو الأهم، قادر على تطوير أدواته العسكرية وتطويعها، والتعامل مع التكنولوجيا في ساحات القتال، وهو العامل الرئيسي الذى لمسه مبكراً هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأميركي في ذلك الوقت، وأحد أهم المفكرين الاستراتيجيين اليهود، وهو من كان وراء فكرة أن حرب رمضان يجب أن تكون آخر الحروب بين العرب وإسرائيل، لأنه أدرك أن نتيجة تلك الحرب لا يمكن أن تقاس بمساحة ما تم تحريره من أرض، بل بقدر ما حققه المقاتل من هزيمة للعدو.
لا يجب أن تبقى حرب العاشر من رمضان آخر الحروب مع العدو الإسرائيلي، طالما بقي محتلا للأرض، منتهكا المقدسات، محاصرا البشر، مسيطرا على المقدرات. ولمن قالوا إن السلام هو الخيار الاستراتيجي، ندعوهم، اليوم، وبعد مرور 43 سنة هجرية على آخر الحروب والانتصارات الرمضانية، إلى مراجعة المشهد. سيجدون أن العدو الإسرائيلي هو الوحيد الذي ينعم بخيار بالسلام، بينما تشتعل كل الأرض العربية بالحروب. وهي، للأسف، حروب عربية عربية بائسة.