يلاحظ المتابعون للشأن السياسي والإداري بالبلد وجود جماعتين بكل "الهيآت القيادية الموسعة" للمنظمات و التشكيلات السياسية و النقابية و الجمعوية و الوزارات و المؤسسات العمومية و الهيآت الخصوصية:جماعة قليلة العدد غالبا، قادرة علي إنتاج و إبداع الأفكار وإخراجها و تحبيرها و إشهارها و التعبير عنها و ترجمتها عند الاقتضاء إلي خطط عملية مشفوعة بمصفوفات للمتابعة و التقييم و يحسن وصفها "بالممونين بالأفكار".
و جماعة أخري كثيرة العدد عاجزة عجزا علميا و فنيا و أخلاقيا تسعي دائما إلي تحييد غيرها و احتكار مراكز الاهتمام واحتلال مظان التأثير و التقرب إلي قلوب أهل القرار متخصصة في "صيد و صناعة" الأخبار العامة و الخاصة و بثها و النفخ فيها و تطعيمها ببعض عناصر الإثارة و التشويق و نسجها و تلفيقها و فرض التركيز عليها و صرف الأنظار عن ما سواها ويجدر نعتها "بالممونين بالأخبار".
و الفارق ما بين المجوعتين كالحد الفاصل بين أصحاب العقول الكبيرة و ذوي العقول الصغيرة مصداقا للمثل الإنجليزي القائل بأن "العقول الكبيرة تناقش الأفكار و العقول الصغيرة تغتاب الأشخاص" Great Minds dicuss ideas, little Minds discuss People.
و كلما حل مسؤول أول بإحدي الهيآت أبدي من أول يوم نفورا و تعففا عن "جماعة الممونين بالأخبار" و اهتماما وتحمسا لتقريب "جماعة الممونين بالأفكار" و الاعتماد عليها مشكلا لجانا متخصصة لتشخيص واقع الهيئة و إبراز نقاط ضعفها و مواطن قوتها و الاضطلاع علي المقارنات اللازمة للاستفادة من نجاحات و إخفاقات الغير ثم اقتراح التصحيحات المناسبة.
حتي إذا استيقن الممونون بالأخبار من سير الأمور في اتجاه إحالتهم إلي الهامش و إبعادهم عن دوائر الاضواء و مراكز التأثير علي القرار تنادوا إلي إعلان حرب معنوية ضد الممونين بالأفكار تستخدم فيها كل الوسائل المشروعة و غير المشروعة، النظيفة و الأقل نظافة و "الظاهرة" و "الباطنة"،... و تتوزع تلك الحرب علي مرحلتين.
تبدأ مرحلتها الأولي عادة بإمداد الرأي العام للهيئة يوميا بحزمة من الشائعات حول توخي المسؤول الجديد من تشكيل اللجان المتخصصة و إعداد الخطط العملية نبش ملفات سلفه و تتبع عثراته وإفشاء أسراره و محاسبة أقاربه و مقربيه كي يحرفوا نفس الإصلاح الجديد إلي معركة جانبية بين "أنصار السلف" و "أشياع الخلف".
أما المرحلة الثانية من الحرب المعنوية فتستهدف غسل دماغ المسؤول الجديد من خلال شيطنة الممونين بالأفكار بواسطة سيل عرمرم من الشائعات و "البرقيات"و "التسريبات" و "الإخباريات" و "المواقعيات" و "الفيسبوكيات" و "المقاهيات" و "الحانوتيات" و " الصالونيات"،... التي تهدف إلي الوقيعة بين المسؤول الجديد و الممونين بالأفكار.
يشمل سيل الشيطنة اتهام جماعة الممونين بالأفكار بالسعي إلي إبراز الضعف العلمي للمسؤول الجديد ابتغاء تنحيته و إحلال أحد أفرادها مكانه إضافة إلي تقديم أدلة و قرائن معززة بشواهد من تاريخ علي وجود خصومات تليدة بينهم مع قبيلة المسؤول الجديد أو جهته أو عرقه أو شريحته أو " ماضي توجهه السياسي" أو "حاضر انتمائه الحزبي"...
و يؤدي غالبا إغراق المسؤول الجديد بسيل االمعلومات المضللة الوافدة من كل حدب و صوب رسمي و غير رسمي، أهلي و أسري لاصق، إعلامي و "تواصل اجتماعي"، ،... إلي تغيير وجهة المسؤول الجديد و جعله سجين متابعة الشائعات و المؤامرات الوهمية و المعارك الجانبية وتصفية الحسابات الشخصية و الجماعية،... و يكون بالتالي مجرد "دمية" في يد لوبيات الممونين بالأخبار.
و لا يختلف اثنان اليوم في أن فئة الممونين بالأخبار ظلت لها اليد الطولي في الإدارة و السياسة خلال التاريخ السياسي للدولة و الإدارة الموريتانية و ترجع عليها المسؤولية الكبري في إفشال و إحباط معظم الإصلاحات السياسية و الإدارية و المالية...
و تساوقا مع المثل القائل بأن "العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة" فإن جماعة الممونين بالأخبار هي المسؤولة عن الاستقالة الجماعية من تعاطي الشأن العم للكثير من المنتسبين لفئة الممونين بالأفكار و الذين آثروا الانزواء و الصمت و المتابعة من بعيد ريثما ينقشع الستار السرابي لغبار معركة انتصار الباطل علي الحق، معركة هزيمة الأفكار و غلبة الأخبار.
و تعتبر الاستقالة الجماعية من الشأن العام تنظيرا و ممارسة للعديد من ألمع الممونين بالأفكار و أكثرهم علما و أرسخهم تجربة و أنظفهم سيرة "أم الخسائر السياسية و الإدارية" للبلد الذي يجمع أبناؤه و شركاؤه و أصدقاؤه،.. علي أن مشكلته الأساسية التي واكبت نشأته حتي الآن هي مشكلة نقص وفرة المصادر البشرية و خصوصا عدم إنزال ما هو متوفر منها منازله!!.
و أمالنا اليوم عراض في قيام وثبة وطنية تقودها النخبة الوطنية العالمة و المناضلة تعزز المكتسبات السياسية و الإدارية المنجزة و تعيد ترتيب "المستعجلات الوطنية" و توجه البوصلة التنموية إلي الاستثمار النوعي و "العادل" و الأفقي العريض و المنصف" في المصادر البشرية تربية و تعليما و تكوينا و توظيفا و تشغيلا و مكافأة و تثمينا...
وثبة تبدأ باتخاذ عاجل الإجراءات لتوفير الظروف المناسبة قانونا و تنظيما و تقليدا سياسيا و إداريا حتي لا يستوي " الممونون بالأفكار" و "الممونون بالأخبار" و يتم ذلك من خلال إعادة المستقيلين من الممونين بالأفكار إلي دائرة الفعل و العطاء و تصحيح انقلاب الموازين الذي أدي في بعض القطاعات العمومية و المنظمات غير الحكومية و الحركات الجمعوية إلي انتصار "باطل الأخبار" علي "حق الأفكار" و كذا ترسيخ ثقافة مكافأة التميز و الاستحقاق إضافة إلي إحالة رموز عدم الكفاءة و "النميمة المهنية" و "الإرهاب الاجتماعي" إلي سلة المهملات.