ذات مرة، أخبرني صاحب محل حلاقةٍ أجنبيّ كنتُ عنده بغية الحلاقة قبل أسبوعين من الآن، في لحظةِ صراع نظراتِنا القلقة في المرآة الشاسعة المساحة أمامنا على الحائط، بأنَّ موريتانيا جميلةٌ جِداً، وصاحبةُ شعبٍ تفرّد في خصوصيّتِه الثقافية والنفسية من بين جميع أصحاب الخصوصيات المتميّزة، على نحوٍ واضِح يتطلب التسليم الاقراري الفوريّ. ولكنه، استرسَل كلامه معي، بما فحواه، أنَّها أيضاً بلاد عجيبة. وذلك شيءٌ سبَق لأحد أهلها قوله قبل عقدين من الزّمن في كتابٍ له طريف تضمّن صفة العجائبية تلك في العنوان قبل الفحوى. الأجنبي هذا علّل عجائبيّة بلادنا من الناحية الثقافية-السلوكية لشعبها أكثر، غيرَ أنه في الأخير، ختمَ تعليلاتِه لتلك العجائبية التي قال بها، بشيءٍ من التذمّر المُبطن. كان ذلك حين أضاف للعوامِل التي قدّم بدايةً، عامليْنِ أخيريْنِ، هما المّناخ الجهنمي الذي فرضته لعنة الجغرافيا، والذباب المخلوق وفق طبيعة البلاد، وليس تقديمه للعامليْنِ في ذاتِهما مُجردانِ، بل إنه ربط بينهما وبين الشعب، وكيف أنَّ هذا الأخير قادِرٌ على مُعايشتِهما مُعايشةً غريبة، تتطلّب الدّهشة من قبل الغريب الوافِد مثله. علماً أنهما كما قال خاتِما حديثه أبرز عامليْن جعلا البلاد سيئةً وقبيحة، بالنّسبة له شخصياً. وقد أكدَّ لي في الأخير، بشيءٍ من اللّباقة العالية، ذاتية حُكمه ذاكَ كثيراً، تخوّفاً من أن يكونَ أساءَ لحسي الانتمائي.
لقد صدّقتُ بعفوية استسلامية كلَّ كلام ذلك الحلاّق المُعجب بثقافة البلاد وطبيعة شعبها، وأُعجبتُ بشكلٍ خاص بالتعليلانِ اللّذانِ ساقهما في ختام حديثِه، وهما للحقيقة تعليلانِ على درجةٍ من الحقيقة الصادِمة، رغمَ السطحيّة التفاهيّة الباديةِ فيهما، فالأوّل، أيْ المناخ الجهنمي، وأقولُ هذا على ضوءِ تجربة نهار هذا اليوم الجحيمي حدَّ الغليانِ، بأشواظِه النيرانيّة الحارقة، يجعلُ من الموجودِ في ظلِّه من البشرِ يُفكر بشكلٍ تلقائي في الهجرة إلى الخارج حيثُ البلدان الفردوسية المناخ. أما العامِل الثاني الذي ساقه، أيْ الذّباب، فهو عامِل حقيقي أيضاً، وأعتقدُ أنه قدّمه نظراً لما حصلَ ساعةَ الحلاقة التي كان فيها الذباب بطنطنتِه المتاهيّة وحركاتِه المُزعجة يُعلِن بداية الحرب علينا، رغم أنَّ الزمانَ ليلٌ، وفي الليلِ يسحبُ الذباب قواته إلى مكانِه السكنيّ الخفيّ، كما في الخيال الشعبي. زِدْ على ذلك أنَّ الذبابَ عندنا ذا طبيعةٍ خاصة، بازعاجِه القاتِل، ووجودِه الرسمي الذي وصَل لدرجة مُزاحمة مُقدّم الأخبار على شاشات قنواتنا الجنائزية الطابع. مايجعله قابلاً للوصف بأنه " وُلد من ثؤلولٍ في أذن الشيطان" كما وصف سليم بركات ذباب أهل مدينة "ياف" في روايتِه (الفلكيون في ثلاثاء الموت: الكون؛ ص/31؛ دار النهار الطبعة الأولى).
هذا كلامُ حلاّقٍ أجنبي حديث العهد نسبياً ببلادنا، قادتني سويعات آخرُ اللّيلِ إليه بشكلٍ من اللّجوء الاضطراري، نظراً لخلو المدينة وقتها من حلاقٍ غيره لايزالُ مُداوِما. ولكمْ وودتُ بعد ما ذهبتُ عنه وقلّبتُ نظر التأملِ في ماقال لي أن تُدوِنَ مُلاحظاتِه العفوية تلك، خاصةً الأخيرة منها، في لافتتةٍ جداريةٍ كُبرى على مدخل مطارِ نواكشوط الخروجي والدّخولي، بعد أن يكون أضيفَ لها عامليْنِ من قبلي، يُشيرانِ بشكلٍ توكيدي تأييدي على ما قاله عن الأشياء التي جعلت البلاد سيئةً وقبيحة. هما: العسكرة القبائلية المُسيطرة، والنخبة المثقفة بشكلها الطفيلي القبيح، على كافةِ أنواعِها. ولاضير إن خُصِّصَّ للاغتصابِ مكانٌ إضافيّ بين تلك الأشياء السيئة كُليّاً. هذا، ليُكتب بعد ذلك في الأسفل التحتيّ من ذلك المكتوبُ الجداريّ؛ كلام حلاقِ آخر الليل الأجنبي وزبونه المحلي الجديد.
نقلا عن صفحة الكاتب