الفِتَنُ واقتصاديات الأسواق الحمراء

اثنين, 2015-07-13 06:04
 مطاع صفدي

متى أمسى الجهاد أخطر سلاح مدمر للإسلام عينه، والجواب عندما تحول ربيع العرب إلى إنتاج الفظائع الهمجية بديلاً عن وعود جنان عدن في تحقيق الحرية والعدالة والسلام لغالبيات شعوبه المثلومة كراماتُها منذ دهور. هذان التحولان لكل من مفهوميْ الجهاد والربيع من الضد إلى الضد في مضمون كل منهما، إنما يلخصان بواقعية مباشرة، حقيقَة الوجود ولاوجود لمعظم شعوب العرب، عبر أبغض وقائع المعاناة والتغيير في التاريخ الإنساني، أي خلال هذه الحقبة المريرة من سيرورة ما كان يسمى بالنهضة العربية المعاصرة. 
حين تتكنَّى فظائع الشرور الدهرية بأسماء الربيع ومواسمه، وتفتح دعوات الجهاد جهنم الدنيا والآخرة كلها على مصارعها، حينما تغطي الألفاظ الجميلة أبشع جرائم الإنسان ضد أخيه الإنسان، حين يصار إلى إغراق معاني القداسة الإلهية في وعثاء الغرائز الحيوانية، فلن تتبقى للثورة أية أخلاقية تحمي بها حداً أدنى من صدقية نواياها لدى محاربيها القدامى أو تثير تعاطف المزيدين القادمين اليها. 
هذه النماذج من انحرافات السلوك الثوري أدت أخيراً بالثورة نفسها إلى السقوط في أسر العزلة الاجتماعية. فلم يعد معظم الرأي العام للكتل الشعبية الكبيرة قابلاً للإنضواء بصورة آلية تحت شعارات الميادين القتالية المفتوحة في ساحاته. فأحداث تلك الميادين أمست تخص فاعليها المباشرين أنفسهم.
هنالك مسافات فراقٍ متمادٍ تنشقّ ما بين مصارع الجهاديين فيما يخص شراذمهم وانقلاباتهم ضد بعضهم، ومذابح الكل ضد الكل، وليس ضد العدو الأصلي أبداً. لكن هذا لا يعني أن (الجهادية) فقدت جاذبية إعلامها لدى من كانت تعتبرهم جماهيرها النظاميين. فلا يزال العنصر الشبابي، سواء من المقيمين أو المهاجرين، هم المادة البشرية الأولية لتجارة متعهدي الحرب والفتن الأهلية، في الوقت الذي تُفتقد فيه الحدودُ الدنيا من الوعي المعرفي لدى غالبية الأجيال الصاعدة، بحيث تلعب مشهديات العنف الجنوني يومياً وأخبار فظائعها أدوار الجذب شبه السحرية، للتعويض عن مشاعر الإحباط الجماعي والفردي للكُتل الشبابية الهائمة في شوارع المدن العربية الكئيبة وأريافها المنسية؛ إنه اقتصاد الأسواق الحمراء مقابل اقتصاد الأسواق السوداء، تجارات الموت المأجور ما بين سماسرة الشعارات (الجهادوية) ومخططي المقتلات العبثية من جهة وبين جحافل متطوعي القتل للذات وللآخر من جهة أخرى، فهم الضحايا الأشد ظلماً لأنفسهم من المتاجرين بأرواحهم. 
فلو أُتيح مستقبلاً لمراقب علمي أن يتنبّه لأسرار هذه المرحلة الراهنة، وهي من أتعس ما عرفه تاريخ النهوض للأمم والحضارات، فقد يفاجئه بروز نظام جديد متكامل لاقتصاد الحروب، تصّح تسميته باقتصاد الفتن المنظمة، وهو آخر ما ابتدعه عصر الإمبراطورية الأحادية بديلاً عن أصناف حروبها التاريخية السابقة جميعها. 
ومن أهم خصائص اقتصاد الفتنة هو أنه ليس مجرد ظاهرة انحرافية. إنه الاقتصاد الذي يعتمد الفتنة باعتبارها هي جهاز الإنتاج الأساسي وبالتالي يصير مرشحاً للديمومة الاجتماعية كنظام للحياة العامة. وليس لقطاع (صناعي) معين أو عابر فحسب. فالفتنة هي المصنع المركزي لاقتصاد لن تقتصر بضائعه على أجساد القتلى. بل يسبقها استعباد عقولهم ومعهم عقول بيئاتهم من حولهم. بمعنى أن الاقتصاد الفتنوي لا تحدّه تجارات الأموات، بكل أصناف الموت ووسائله وحدها. إنه وباء حقيقي. حافظ لبقائه بقوة انتشاره. فلا حدود تشلّ حركته. بل هو حاضر ومهيمن في كل مجال عمومي تحديداً، وأقرب ساحاته ما بعد ميادين القتال هي السياسة، ومن طبيعة السياسة أنها لا ترفض الازدواجيات، وخاصة في سياق تعاملاتها اليومية مع شعبويات مجتمعها الخاص، كما مع القوى الأجنبية عنها. وقد تكون صيغة «الإمبراطورية» هي ذروة الازدواجية المتجسدة في السياسة. خاصة عندما يصبح مجالها هو العالم كله، جاعلةً من ذاتها موضوعَها المركزي وبرهانَها المباشر تحت مصطلحها الشائع؛ سياسة الأمر الواقع. فالإمبراطورية هي عولمة الاستبداد؛ وبقدر ما هي مُدَوْلنة فإن لها وجودها. كل ما تفعله يصير هو واقع، كلُّ ما تقوله يصير هو الحقيقة. عولمة الاستبداد لا يكافئ وجودَها الا اقتصادُ الأسواق الحمراء. الذي يمتطيه مركّب الاستبداد/الفساد المعهود إياه منذ أن كان هذا المركب عالماً ثالثياً فحسب، ثم أمسى في ظل الإمبراطورية عالماً كونياً؛ مع العلم أن هذا التحول لن ينفي عن قارة العرب والإسلام كونها هي التي شكلّت، وسوف تبقى كذلك، بؤرةَ هذا المركب الأولى، ومصنَعه الأكبر، المضاعِف لجهوده من موسم اقتتال إلى آخر، والمنافس لذاته ما بين أصناف من الفظائع الموروثة والمبتكرة.
منذ أن حلّ قدر «الإمبراطورية» على عالم اليوم تنبأ بعض العقل الغربي الحر أن الإنسانية لم يعد لها ثمة مستقبل لما بعد الإمبراطورية فسوف تكون هي دولة الدول جميعها، وإن من دون أية واحدة منها إلا صورياً وليس واقعياً أبداً. 
والآن هل يملك الإنسان العربي ثمة سؤالاً عن نهاية لفتنة ما ناهشة لجسد هذا القطر أو ذاك، أم أن مركب الاستبداد/الفساد بات من القوة بحيث صار قادراً على إنتاج أنظمة القهر والاستغلال ونَسْلها من بعضها إلى ما لا نهاية. فماذا يمكن للثورة أن تقدم لأنصارها من وعود بالأيام السعيدة القادمة سوى محالفة القهر الراهن خشية من القهر الأعظم الذي يأتي بعد مجهول المغامرة الجديدة. هذه المفاضلة الحزينة بين السيىء والأسوأ، هل لم يتبقَّ للعربي من خيار له سواها. 
هل هو التعايش سياسياً وثقافياً مع ذل الاضطهاد مضافاً إلى مظالم الإنسان العربي التاريخية المعهودة في الفقر والجهل والمرض. ليصبح التعايش متكاملاً بين ويلاته المناضلة في تاريخية وجوده، كانعكاس محتوم لجغرافية صحاريه الأزلية. 
هل نحن من جديد نقرأ تأويلات استشراقية بالية. لكنها عائدة مع أساطير الغيبيات الضاربة أطنابها ما بين رؤوس أجيالنا الشبابية، المتهالكة على محبة الموت..
ليس أخطر من سمومِ اليأس السياسي سوى اليأس الأيديولوجي. فبدلاً من تبديد آخر أوهام القهر بفضح المتكسّبين بأجساد ضحاياه، و يصار إلى تجميل التحالفات المتنوعة مع صنائعه، تحت تسميات العلاقات السلمية النفاقية. فإلغاء الحدود مابين معسكرات الخير والشر من ليلة ظلماء إلى فجر خادع لن يجعل الشمس الغاربة تسطع ثانية من عين المكان الذي غرقت فيه. 
«الإمبراطورية» ليست مذهباً سياسياً. قد تكون آخر أساطير الاستبداد. يوماً قريباً لن يكون لأسطورتها وجود إلا في بعض الألسنة الناطقة بألفاظها بعْدُ.