«النبوغ المغربي» والحصار الفرنسي!

ثلاثاء, 2015-07-21 06:04
زهور كرام

يشكل الإبداع بتجلياته المتعددة المادية والرمزية حصانة المجتمعات والشعوب، ضد قهر الزمن، وعبث التلاشي في النسيان التاريخي. ويعود تشبث الأمم بإبداعها، والدفاع عنه، واعتباره مظهرا من وجودها، إلى كون الإبداع يُعد خزانا لرؤيتها. والرؤية تبدأ من نمط العيش، وطبيعة التعاقدات والتوافقات الاجتماعية، وشكل العشق، ولغة التواصل إلى نوعية الفكر الحاضن للتمثلات والتصورات، وطبيعة الخطاب المُنظم لشكل هذا الوجود. الإبداع علامة وجود فلسفي للشعوب والحضارات، وليس تعبيرات عابرة، تتلاشى بموت منتجيها. ولهذا، يعتمد منطق الاستعمار في أولى خطواته الاستعبادية ضرب الإبداع وفضاءاته، وتدمير الفنون ومراكزها، وتحطيم الآثار ومواقعها التاريخية، ولعله فعل لا حضاري يهدف إلى تحقيق ثقافة المحو، التي تقضي على حمولات الذاكرة الجماعية. 
ولأن الجغرافية صدى لخطوات الشعوب، ولحركتها التاريخية والاجتماعية والاقتصادية، فإنها تلتحق بالإبداع في منطق الاستعمار. ما يدعو إلى التذكير بالشرعية الوجودية للإبداع والفنون، ومنجزات الإنسان في زمنه وجغرافيته، وما يدفع إلى استدعاء مثل هذا الوعي بأهمية الإبداع بكل تجلياته في وجدان الحضارات، ودوره في توثيق الوجود الإنساني تاريخيا، هو ما تتعرض له جغرافيات وحضارات وتاريخ البلدان العربية اليوم من تمزيق، وما تعرفه الذاكرة الثقافية الجماعية من عمليات تدمير ومحو تأتي على المادي والرمزي، وما يشهده الإبداع اليوم من عمليات إفراغه من قيمة النوعية والجودة التي تُؤمن بقاءه التاريخي، والعمل على تشجيع الأعمال الذابلة والباهتة، تلك التي تتلاشى مع انتهاء تلقيها، وتكون عابرة، لا تملك القدرة على إنتاج رؤية العالم لمجتمعاتها، ولا تستطيع أن تكون شاهدة على زمن، وحاملة لمعنى وجود مجتمع، وإذا نجحت في المرور تاريخيا – بصعوبة تاريخية أو تحايل ثقافي- وتمكنت من التعبير عن المجتمع، فإنها تخون وجدان الشعوب، حين تُمثلها بذبول شاحب ومُزيَف، يقضي على منجزها الحقيقي والنوعي. وضعٌ، قد ينفلت من التفكير المسؤول، مع سرعة محاولات المحو والتمزيق من جهة، ومن جهة ثانية، مع الانتصار لثقافة الذبول تلك التي لا تترك الأثر.
ولذا، يقتضي الأمر معرفيا وثقافيا وسوسيولوجيا، إعادة الوعي بدور الإبداع في تحقيق شروط الكينونة، وضرورة الانتباه إلى ما يحدث للإبداع ومشتقاته الرمزية من مظاهر المحو المباشر عبر تدمير فضاءاته، أو التشكيك في خطابه، وأسئلته، ومرجعيته، أو من خلال تشجيع إنتاج البديل الميت من أساسه. وحتى نعقد علاقة بين الاستعمار وضرب إبداع المجتمعات المُستعْمرة، نُذكَر ببعض الأمثلة وهي كثيرة، ونستحضر منها، « النبوغ المغربي في الأدب العربي» (ط1/1938) ، وهو كتاب العلامة المغربي «عبد الله كنون» ( 1908- 1989)، ألفه زمن الاستعمار الفرنسي للمغرب، من أجل إضاءة الإبداع المغربي، والتعريف به وتقديمه للمشرق العربي، وقد جمع فيه بين العلم والأدب والتاريخ والسياسة، محاولا عبر أجزائه إلى الدفاع عن الأدب المغربي، من خلال توثيقه، وإيصاله إلى العالم. وقد أرجع العلامة عبد الله كنون بعض أهداف تأليفه للكتاب، إلى إثبات الأدب المغربي في خريطة الأدب العربي بعد طول إهمال له، لأن المؤرخين اهتموا بالتاريخ السياسي للمغرب، وأهملوا بالمقابل التاريخ الأدبي، حتى ضاع جل التراث المغربي. ولهذا جاء «النبوغ المغربي في الأدب العربي» ليعيد إحياء الذاكرة الأدبية المغربية، وجعلها واقعا رمزيا يعبر عن المغرب السياسي والتاريخي والاجتماعي والإبداعي. لكن، الاستعمار الفرنسي الذي كان يحتل المغرب في هذه الفترة، أصدرت سلطاته أمرا بمنع تداول وتوزيع وبيع كتاب «النبوغ المغربي»، في المنطقة التي كانت تقع تحت نفوذه.
ولعل الاستعمار الفرنسي أدرك خطورة الكتاب في تقوية الروح الوطنية من مدخل الأدب من جهة، ومن جهة ثانية، لأن السفر في أدب مجتمع، يفترض سفرا في تاريخه السياسي، ورحلة في مجتمعه، يقول عميد الأدب العربي طه حسين في كلمته التي كتبها عن «النبوغ المغربي في الأدب العربي»، ونشرها في جريدة «أخبار اليوم» المصرية بتاريخ 8-5-65 «هذا كتاب ممتع كل الإمتاع نافع كل النفع للذين يعنون بالأدب العربي وتاريخه، فهو يفصل لنا كل التفصيل التاريخ السياسي والأدبي والعلمي للمغرب الأقصى». كما أكد شكيب أرسلان في مقدمته لـ»النبوغ المغربي» على أهمية الكتاب من حيث جمعه بين الأدبي والعلمي والسياسي، يقول «إن من لم يقرأه فليس على طائل من تاريخ المغرب العلمي والأدبي والسياسي». وفي هذا تأكيد على أصالة المجتمع الذي يحاول الاستعمار التشكيك في شرعيته التاريخية، من أجل اختراقه واستعباده واستلابه ثم محو أثره، وإقصائه من الوجود، من خلال ضرب رؤيته للعالم المُؤمَنة في الإبداع والفنون.
يشكل كتاب «النبوغ المغربي في الأدب العربي» للعلامة عبد الله كنون مثالا واحدا من الأمثلة التي تشهد تاريخيا عن دور الإبداع في تأصيل الهوية الوطنية، وتوثيق المعنى الفلسفي لوجود مجتمع وحضارة، والذي شكل بمنظوره ورؤيته خطورة بالنسبة للمُسْتعْمِر، لكونه يُخزَن رؤية العالم للمجتمعات المُسْتعْمرة، التي تقف سدا منيعا أمام سياسة المحو الاستعماري. جاء الكتاب خاصة في طبعته الثانية في ثلاثة أجزاء، جزء صور فيه العلامة كنون التاريخ السياسي منذ الفتح الإسلامي إلى أواسط القرن الثالث عشر للهجرة. ويذكر طه حسين أن الكاتب أرخ في هذا الجزء مع السياسة للحياة العقلية المغربية. أما الجزء الثاني، فقد خصصه عبد الله كنون لمختارات من الأدب المنثور في العصور المختلفة. 
وجاء هذا الجزء عبارة عن توثيق دقيق ومفصل حول كل الأدباء والفقهاء واللغويين والفلاسفة وغيرهم. أما الجزء الثالث فإنه اهتم بالمختارات الشعرية، بكل أنواعها. لم يكن «النبوغ المغربي» كتابا عاديا، ولكنه حمل إلى جانب أهدافه التوثيقية لمسارات الإبداع المغربي بكل حقبه التاريخية السياسية، جانبا مهما يخص طبيعة الخطاب المغربي، أي نظامه، وأصالة خصوصيته التي مكنته من الحفاظ على تميزه، ولعل طه حسين يشرح هذا البُعد الخصوصي في كلمته حول «النبوغ المغربي»، إذ يقول، «والغريب أنني قرأت كل ما في هذا الكتاب من المختارات في العصور المغربية المختلفة (….) فلم ألاحظ فيه تكليفا ولا التزاما للبديع على كثرة شيوع البديع والتزامه في كثير من شعر المشرق ونثره، ولا سيما في العصور المتأخرة. وهذا يدل على أن عدوى البديع لم تصل إلى المغرب الأقصى وعسى أن يكون بعده في المكان وأنه لم يخضع لسلطان أجنبي إلا في عصر الحماية الفرنسية، وهو والحمد لله قصير، كل هذا أتاح له من الحرية السياسية والعلمية والأدبية ما لم يتح للبلاد التي خضعت للسلطان الأجنبي في الشرق والمغرب». يُعبر كتاب عبد الله كنون عن خطاب المقاومة /المواجهة لخطاب المحو الاستعماري، عبر ثقافة الإبداع التي تُؤصَل للسياسي والتاريخي والاجتماعي، وتدافع عن وجودها من خلال تصوراتها وتمثلاتها في الآداب والفنون. إن استحضار عملية منع كتاب «النبوغ المغربي في الأدب العربي» للعلامة المغربي عبدالله كنون» من قبل الاستعمار الفرنسي، هو بمثابة تذكير بأهمية الإبداع في تخزين معنى وجود الشعوب، وحرص الاستعمار على تدمير هذا المعنى من خلال ضرب الإبداع. وعليه، فإن ما يحدث اليوم في المنطقة العربية من تمزيق للجغرافيا، وتدمير للآثار، وتشكيك في القراءات المألوفة لخطاب التمثلات، وتشجيع للثقافة الأدبية الباهتة، ومنحها شرعية التداول يتطلب تأملا مسؤولا، من أجل تدبير الفهم الصحيح لما يحدث. ولعل إعادة تدريس مثل هذه المؤلفات، في علاقة بزمن تلقيها ومنعها من قبل الاستعمار، يجعل الشباب ـ على الخصوص- على وعي بضرورة تحصين هويته من خلال الحفاظ على إبداعه خطابا ومحتوى وسؤالا، مع المُطالبة بالإبداع الذي يُمثل رؤيته للوجود.