بين مبالغة وتهويل من ناحية، ومغالطة وتهوين من ناحية أخرى، غاب صوت العقل للأسف في افتتاح المجرى الإضافي لقناة السويس، وليس «قناة السويس الجديدة»، كما يقول النظام، أو «التفريعة» كما يسميه بعض مناهضيه.
فالواقع هو أنه توجد قناة سويس واحدة فقط، وفي المقابل لا يمكن التقليل من قيمة الإنجاز في إنشاء مجرى اضافي يبلغ طوله تسعة وسبعين كيلومترا خلال عام واحد، بعد إزالة كمية من الرمال تزيد مئتي مرة عن حجم الهرم الأكبر.
أما المناقشة الواجبة بعد أن تزول السكرة وتأتي الفكرة، التي اقصاها خلال الايام الماضية ضجيج الاحتفالات، أو محاولات التشويه لحرمان المصريين من فرحة يستحقونها بعد أعوام عجاف كثرت فيها الكوارث والجنازات، فيمكن تلخيصها في التالي:
اولا- كان واضحا المغزى السياسي والإعلامي من إنجاز المشروع في عام واحد بدلا من عامين او ثلاثة، وهو ما كان سيوفر كثيرا في التكاليف، بدءا من تأمين شعبي بلغ 68 مليار جنيه خلال ثمانية أيام، ما اعتبر تصويتا تلقائيا على شرعية الحكم، حتى المبالغة في الترويج لها كحل لكافة مشاكل مصر، وهذا كلام يفتقد للدقة.
وربما يجادل البعض بأن الدفعة المعنوية التي اثمرها الانجاز، تستحق صرف الأموال التي كان ممكنا توفيرها، ولكن ماذا عن الاولويات الحقيقية عند المصريين الذين يعانون من تفاقم مشاكل مزمنة مثل البطالة وتردي الخدمات الصحية والتعليمية وانتشار الفساد والعشوائيات والانتهاكات وغياب أي برنامج للانفتاح السياسي؟ هل لدى النظام رؤية حقيقية لمواجهة هذه المشاكل؟ أم أنه يبحث فقط عن المشاريع ذات المردود الاعلامي والسياسي السريع؟ إنها اسئلة مشروعة لا يطرحها أحد في مصر حاليا في ظل غياب أي فضاء حقيقي للنقاش العام، وإعلام مشغول بالتطبيل والمكايدة؟ لقد سئم كثير من المصريين من استخدام مكافحة الإرهاب والقضاء على الإخوان مثل «قميص عثمان» لتبرير كافة الموبقات التي يرتكبها بعض أبواق النظام وادواته. ولا يمكن ان يكون هذا خافيا عن الرئيس شخصيا.
ثانيا- يجب على النظام أن يقدم نموذجا في الشفافية، لن يقل أهمية عن إنجاز المشروع نفسه، عبر تقديم كشف حساب مفصل لكيفية إنفاق اموال الشعب على المشروع، وإن كان صحيحا انه تكلف اقل من التقديرات؟ وبالتالي ضرورة اعلان حجم الأموال الفائضة، وأين ستنفق وبأي ضمانات للمراقبة والمحاسبة.
وبالطبع فان غياب البرلمان، وتعديل القانون الذي منح الرئيس سلطة اقالة رؤساء الاجهزة الرقابية، تأكيد لاهمية ان يبادر النظام نفسه لاثبات الشفافية، خاصة في هذا المشروع، الذي جاءت معظم ميزانيته من مصريين بسطاء، ربما دخلوا البنوك للمرة الاولى في حياتهم لشراء شهادات القناة، ولا يمكن ان يكون دافعهم الحقيقي هو حصد فوائد على تلك الودائع البسيطة، بل ان الوازع الحقيقي، الذي لا يفهمه من حاولوا كسر فرحة المصريين باشاعات من نوع «أن الصين او اسرائيل ستبني خط سكك حديدية يفقد قناة السويس جدواها الاقتصادية (..)»، هو ان القناة تمثل جزءا من وجدان المصريين قبل ان تكون احد موارد الدخل القومي. والمعروف انه شارك في حفر القناة من 1859 الى 1869 نحو مليون مصري، وكانوا يمثلون ربع سكان مصر في ذلك الوقت، واستشهد منهم مئة وعشرون الفا، ومن اجلها قامت بريطانيا باحتلال مصر عام 1882، بعد ان حاولت فرنسا استخدامها لتهديد المصالح الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، كما حاولت الامبراطورية العثمانية استغلالها لاخضاع مصر الحديثة القوية حينئذ عندما سعت الى منع مرور «السفن غير الإسلامية» بدعوى أنها «تدنس الاراضي المقدسة». وكانت قناة السويس الجبهة التي شهدت انكسارات مصر وانتصاراتها امام اسرائيل. وحسب احد المستشرقين «لولا القناة لكانت مصر مجرد بلد افريقي اخر». وللاسف فان بعض السهام التي حاول بعض المعارضين تسديدها على هذا المشروع ارتدت عليهم، إذ انها اثبتت غربتهم او «استغرابهم» عن وطنهم. ويجب التنويه هنا بأن دولة قطر، وعلى الرغم من التوتر مع النظام ارسلت وفدا رفيعا للمشاركة في الافتتاح برئاسة وزير المواصلات، في قرار يعكس فهما عميقا للمناسبة، كان يجب ان يحظى باستقبال افضل من النظام المصري.
ثالثا- إن رفض النظام وضع صور الرئيس الاسبق حسني مبارك في الاحتفال، وامتناع بعض ابواقه الاعلامية عن انتقاد هذا القرار، انما يؤكد حقيقة موازين القوى التي تحكم المشهد المصري، التي اشرنا اليها في اكثر من مرة في هذا المكان، اذ ان النظام الحالي يفهم جيدا ان اساس توليه المسؤولية كان التعهد بالانتصار لثورة يناير وليس الانقلاب عليها، وهو اذا كان في بعض اركانه او تحالفاته يمارس تقويضا لاهداف تلك الثورة، الا انه يبقى اضعف من الانقلاب العلني عليها، او حتى الاحتفاء بالرموز التي اطاحتهم. وبكلمات اخرى فان النظام، وعلى عكس بعض معارضيه، يضع عينيه على الكتلة الشعبية الحرجة التي اسقطت اربعة انظمة وثلاثة رؤساء في اعوام قليلة، ومازالت قادرة، إن قررت ذلك، على ان تطيحه، وهو ما قاله صراحة االرئيس عبدالفتاح السيسي نفسه في إحدى المناسبات. ومن المؤكد أن تلك الكتلة الحرجة ستجد من يمثلها في البرلمان الجديد، بغض النظر عن عدد المقاعد، وهذا ما يثير قلق النظام، بل ورعبه من اجراء الانتخابات، وهكذا يمكن فهم لجوئه الى التسويف بل والمماطلة في استكمال التحضيرات الضرورية لعقدها.
اخيرا فان النظام مطالب في هذه المناسبة بقرارات لا تقل شجاعة عن انجاز القناة، مثل اطلاق سراح «كافة المعتقلين الابرياء» على الاقل، حسب تعبير السيسي نفسه، ضمن مبادرات داخلية واقليمية تعكس ما اضافه هذا المشروع التاريخي لمكانه ومكانته.