عن الوطن والاحتلال 3- حديث المدن

جمعة, 2015-08-21 02:50
د.عبد الحميد صيام

زيارة العربي لفلسطين تطبيع وزيارة الفلسطيني لفلسطين ضرورة ونضال وعشق يتجدد، وإعادة تجديد العهد بحب الوطن بعد غياب. 
من لا يعرف مدن فلسطين وخصوصية كل مدينة يعتقد أننا نتحدث فقط عن بلد عادي مثله مثل بقية بلدان الدنيا، فيه شجر وبحر وجبل ونهر وسهل. لا ليس الوضع على هذه الصورة، ففي هذه الرقعة النادرة من الأرض يتسابق فيها جمال الطبيعة مع رقة المناخ وتنوع الجغرافيا وحنانها وتنوع الفلكلور مع المقدس بكل تنويعاته السماوية لتمتزج كل هذه العناصر معا ويخرج منها نسيج لبلد نادر الوجود، لا مثيل له في رقعة صغيرة شهدت بزوغ أول حضارة على وجه الأرض. فعندما أعوج في الصيف على الوطن أعمل على ألا تفلت مني قرية أو مدينة من الناقورة التي وقفت بها قبل أيام إلى رفح التي زرتها بعد ترسيم حدودها إثر معاهدة كامب ديفيد، لا ترد في ذهني للحظة واحدة أنني سائح. معاذ الله. فأنا أعود إلى البلد الأجمل لأحول الحب إلى عشق والمعلومات إلى تجارب ونبع الذكرى إلى سِفر من التلاحم والوله والأمل وأعطي الكتابة مسحة من الرومانسية التي تشكل خليطا من الشعر والبكاء والغناء والأمل. 
لقد كـَوتـْني الغربة حتى شفت عظامي، وكم بكيت وجعا وحنينا للوطن وأنا أحمل حقيبتي وأسافر من بلد إلى بلد، أبحث عن عشق لمدينة تعوض جزئيا عن ولهي ببلاد لا مثيل لها، تقاتل عليها ومن أجلها كل الشعوب والحضارات والإمبراطوريات والغزاة والمغامرين والمجرمين القتلة وما زالوا ولم أجد. فتعالوا معي في جولة عشق لا أحلى ولا أجمل لهذا الوطن الاستثنائي، الذي وصف الرب أرضه بأنها تفيض لبنا وعسلا.
حيفا مدينة يحلو العيش فيها
العودة إلى حيفا، وتعني في أحد تفسيرات الاسم، الأرض التي يطيب العيش فيها، تشفي من داء حرمان مزمن والجلوس على قمة كرملها الساحر يأخذك إلى عنان السماء ويغسلك بالندى وشذى بيارات البرتقال ويطلعك على أسرار تلاقي البحر والجبل والسهول الخضراء. لا أستطيع أن أفيها حقها في عجالة وليعذرني صديقي جوني منصور الذي علمني في يوم عن حيفا أكثر مما تعلمته في دهر، وأنا الذي وقعت في عشقها من أول نظرة قبل نحوعقدين، عندما جئت للمدينة في مهمة دولية والتقيت بالمرحوم توفيق طوبي أحد أعلامها العظام. استطاع جوني المسكون بحيفا والذي خلدها في كل كتاباته الغزيرة، وآخرها مجلده الأهم «حيفا الكلمة التي صارت مدينة» أن يفتح صفحات مجهولة من تاريخ المدينة، وكيف تم تطهيرها عرقيا عام 1948، ولم يبق من سكانها إلا نحو ألفين حشروا في معتقل جماعي ومنعوا من الخروج لمدة طويلة، وأصبحوا الآن نحو خمسة وثلاثين ألفا يمثلون عشرة بالمئة فقط من سكانها الأغراب، وهي النسبة نفسها معكوسة عند بداية الانتداب البريطاني. تجولنا في الأحياء العربية واحدا واحدا وزرنا بيوتها المهجورة والمكسرة بعد أن اقتحمتها العصابات الصهيونية وأتت على محتوياتها، ثم أجبر اليهود المغاربة على السكن في تلك البيوت المهملة إلى أن قاموا عام 1951 بتمرد أطلق عليه ثورة المغاربة. وضعت الدولة يديها على تلك البيوت الفارهة، التي تدل على ثراء وسعة ورفاه تحت طائلة ما سمي بقانون أملاك الغائبين. تحاول الآن أن تبيعها بمناقصات تكاد تكون سرية لتتأكد أن المشتري ليس من أصحابها أو العرب الميسورين. ويقوم الآن أحد المستثمرين بترميم أحد هذه البيوت بطريقة قبيحة شوهت جماله وحولته إلى بناية سكنية للاستثمار لا غير، وبالتالي تم دفن صفحات من التاريخ والذكريات التي تشهد على عروبة المدينة. يحاول الغزاة طمس معالم المدينة العربية بشتى السبل. يغيرون أسماء الشوارع والأحياء والميادين والساحات. ويزورون الذاكرة الجماعية للمدينة، لكن كل زاوية وتكية وكنيسة ومسجد يفند تلك الأباطيل. شعرت وأنا أزور مسجد الاستقلال أن أنفاس شيخ المجاهدين عز الدين القسام ما زالت تعبق في المكان وهو يخطب ويحرض الشباب على عدم الخضوع والاستسلام وعلى ضرورة مقاومة الغزاة. ولا بد من وقفة أمام كنيسة مار الياس لتشاهد النصب التذكاري الذي أقيم لتذكير الأجيال بمصير جنود نابليون، الجرحى والمرضى الذين قضوا في سفح الجبل وجمعت الكنيسة رفاتهم ودفنتهم في قبر جماعي لكي يعتبر كل غزاة الأرض أن مصيرهم إلى زوال. ولأن الحديث عن حيفا أمر شيق وكتاب جوني منصور الجديد على قدر من الأهمية سأعاود الحديث عن المدينة بشيء من الإسهاب.

عكا وحكاية كورنيشها المحرر
أما الجلوس بين يدي ملكة الزمان وقاهرة الإمبراطوريات عكا، فيشفي من داء عطش عاطفي مزمن لا ترتوي منه إلا إذا جلست أمام حسنها وشاهدت البحر يقبل راحتيها كما فعل من قبلنا راشد حسين الذي بكى أمام سورها وخطب ود قلبها وتمنى عليها أن ترفق بقلبه المعنى. عكا لا مثيل لها. عراقة وتقدم، فمن جهة هناك هجمة استيطانية شرسة للاستيلاء على الحي القديم الذي تسكنه غالبية عربية يصل عددها إلى نحو تسعة عشر ألفا، ومن جهة أخرى هناك تمسك والتصاق بالمدينة القديمة، رغم المغريات والضغوطات للتخلي عنها. تحاول «دائرة أراضي إسرائيل» وقف الهجرة اليهودية المعاكسة من المدينة باتجاه نهاريا والكريوت، ووقف ارتفاع نسبة العرب في المدينة التي تصل الآن إلى 30 بالمئة. فكلما خلا بيت سارع العرب لاستئجاره أو شرائه إن أمكن. فما يلبث الأغراب إلا أن يرحلوا عندما يجاورهم العربي. فما هي إلا فترة حتى تجد الحي خاليا من سكانه من غير العرب، ويصبح ذا غالبية عربية، خاصة الجزء المحاذي للبحر من الجهة الغربية والجنوبية. أنظر إلى المشاة على الكورنيش، قال لي الدكتور سهيل ميعاري أحد أعمدة المدينة وذاكرتها التاريخية، لا تكاد تجد متنزها واحدا من غير العرب. نحن نشعر ونحن في هذا الحي أننا حررناه من الغرباء. لقد أعلنت اليونسكو مدينة عكا موقعا تراثيا للإنسانية جمعاء، وبالتالي أصبحت حماية المواقع التاريخية العريقة ليست شأنا إسرائيليا فحسب، بل فرصة لكشف التزوير التاريخي للرواية الصهيونية الملفقة حول علاقة المدينة بأي موروث إسرائيلي. هذا هو مسجد الجزار الذي يذكرنا بأحمد باشا الجزار الذي أعاد نابليون خائبا عن المدينة فقام بخلع قبعته ورميها على تلة صغيرة شرق المدينة تسمى إلى اليوم «تلة نابليون».
من بين المؤسسات العظيمة التي حافظت على عروبتها مؤسسة «الأسوار» التي بدأت دار نشر ثم تحولت إلى مركز ومعلم ثقافي وحضاري لحماية التراث الفلسطيني وتكريس عروبة المدينة وتكريم أبناء المدينة المبدعين مثل، غسان كنفاني وأحمد الشقيري وسميرة عزام والشاعر خليل حسني الأيوبي. وقد استمعت لشرح مفصل من القائمين على المؤسسة حاليا مدير المؤسسة يعقوب حجازي، الذي أكد أن المؤسسة لا تتعامل مع السطات الإسرائيلية رغم أزمتها المالية ورغم الضغط والإغراءات، والسيدة بهية غريفات أم حسين زوجة الشهيد محمد غريفات الذي شارك في عدة عمليات وحكم بالمؤبد قضى منها 15 سنة في السجن إلى أن خرج في عملية التبادل. وهي ابنة الشاعر خليل حسني الأيوبي ويعود بنسبه إلى الأكراد الذين رافقوا صلاح الدين واستقروا في المدينة. يقول السيد حجازي إن المؤسسة لعبت دورا رياديا في حشد فلسطينيي الداخل في دعم «القدس عاصمة الثقافة العربية» عام 2009. والمؤسسة ليست منحازة لفصيل أو حزب، بل لفلسطين. «لقد غسلت السلطة الفلسطينية أيديها من دعمنا ولولا الدعم القادم من السويد والبعثة البابوية لتوقفنا عن العمل بسبب نقص التمويل». لقد اضطرت المؤسسة لوقف مجلة «الأسوار» الفصلية التي كانت منبرا حرا للإبداعات والدراسات. ولا بد من عودة للحديث عن المؤسسة وأزمتها لعل صوتها يصل إلى المعنيين بالأمر وينقذونها من الانهيار.

بيت لحم ونزيف الهجرة والأرض

شيئان يلفتان النظر في بيت لحم، مهد المسيح عليه السلام، تناقص الوجود المسيحي فيها وتناقص الأرض التي تملكها المدينة وجارتاها بيت ساحور وبيت جالا. فبعد أن كانت المدينة ذات غالبية مسيحية عالية، بدأ هذا الوجود يتناقص تدريجيا وبشكل مطرد، كما قال لي محدثي القس الدكتور متري الراهب، أحد أعمدة المدينة والناشطين على تثبيت الوجود العربي عامة والمسيحي خاصة في المدينة. زرته أثناء تنظيمه لمؤتمر فلسطينيي الشتات، الذي دعا إليه العديد من الأساتذة والناشطين الفلسطينيين لدراسة ظاهرة النزيف المستمر للوجود المسيحي في أرض المسيح. أما عن الأرض فقد كادت تكتمل مخططات إسرائيل بابتلاع ما تبقى من أراضي المدن الثلاث حيث تم الاستيلاء على 87٪ من الأراضي وتقف مستوطنة غيلو كخازوق غليظ فوق بيت لحم تخنقها ببطء. ولكي تشاهد كيف وصلت المأساة في بيت لحم وضواحيها ما عليك إلا أن تقف فوق قمة جبل يسمى هنا «إيفرست»، لتشاهد كيف تلتف المستوطنات من كل جانب كأنها حبل مشنقة حول أعناق المدن الثلاث، ثم إنظر إلى الجدار العنصري كيف يخترق أرض المدينة ويقسم الحارات والأحياء والبيوت وبطريقة فجة لا تعني إلا المصادرة والقهر والتضييق كي يرحل السكان، خاصة المسيحيين، لتدعي إسرائيل أن التعايش بين المسلمين وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى أمر مستحيل، فلماذا يلوم الناس إسرائيل إذا أصرت على يهودية الدولة. الأب متري أصر في حديثه على أن السبب الرئيسي لهجرة المسيحيين هو الاحتلال أولا وثانيا وعاشرا، والهجرة أو التهجير ليس مقصورا على المسيحيين، بل على المسلمين أيضا، لكن النسبة تبدو مرعبة عند المسيحيين، لأنهم اصلا أقلية كانت أيام الانتداب لا تتجازوز 8 بالمئة وانخفضت الآن إلى أقل من 2 بالمئة.

أريحا مدينة تنمو وتزدهر في النسيان
من المدن الأقل ذكرا في فلسطين مدينة أريحا، التي يتفق علماء الأنثروبولوجيا على أنها أقدم مدينة مسكونة في التاريخ. ولم تكن المدينة تشدني لزيارتها رغم قربها، لأنها لا تملك رواية خاصة بها من جهة، ولطقسها الجاف وشمسها الحارقة في الصيف من جهة أخرى، حيث تزيد درجة الحرارة فيها عن رام الله في يوم عادي ثماني درجات، رغم أن المسافة بينهما لا تزيد عن 35 كيلومترا. وهذه من خصوصية فلسطين، أن يكون بين المصيف والمشتى مسافة لا تحتاج أكثر من نصف ساعة بالسيارة بينما تحتاج في الولايات المتحدة لأربع ساعات بالطائرة.
اكتشفت في هذه المرة أن المدينة تنهض وتتسع وتشهد حركة عمرانية كبيرة، فالبلدة الصغيرة التي كانت تعتبر حديقة خلفية لأغنياء القدس أصبحت الآن مدينة مكتملة يصل عدد سكانها إلى نحو 35000. 
وفي المدينة جامعة لافتة للنظر هي جامعة الاستقلال، أحدث الجامعات الفلسطينية التي أنشئت عام 1998 وافتتحت لاستقبال الطلبة عام 2007 كأكاديمية أمنية، ثم ما لبثت أن تحولت عام 2011 إلى جامعة نموذجية متكاملة بفضل جهود محلية بحتة ومجلس أمناء يعمل بكل مصداقية لبناء جامعة رائدة متخصصة في العلوم العسكرية والأمنية والشرطية، كما شرح لنا بإسهاب رئيس الجامعة الدكتور عبد الناصر القدومي ورئيس مجلس أمناء الجامعة اللواء توفيق الطيراوي. ولأهمية النموذج الذي قدمته الجامعة سأعود لبحث الموضوع بشيء من التفصيل في مقالات قادمة.
٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرزي