نص ورقة كتبها الدبلوماسي الراحل ولد همدي

جمعة, 2015-08-21 18:19
ختم الورقة التي كتبها الراحل

التحديات الوطنية الكبرى* / محمد سعيد ولد همدي

سيدي الرئيس، سيداتي سادتي،

التحديات الوطنية ما ذا تعني؟

مع احترامي وقبولي لموضوع "التحديات الوطنية" المطاط والمتشعب الذي فرض علي باقتراح اللجنة المخصتة بغية تحديد ومتابعة موضوعات العروض الثلاثة، كان لزاما علي، والحال هذه، إدخال تعديلات طفيفة . سأقترح، هنا وهناك، سبلا تطمح إلى أن تكون حلولا قابلة للتنفيذ؛ ستحدد وتحسن، بالتأكيد، في الورشات وذلك هو الأنسب،وعليه، فإن هذه المشاركة ستضم الأجزاء الأربعة التالية:

الجزء الأول: الحكامة الرشيدة، القِيم، الثروات الوطنية؛

الجزء الثاني: التعليم، الصحة، الشغل؛

الجزء الثالث: تعزيز وحماية الوحدة الوطنية؛

الجزء الرابع: المسار الانتخابي.

 

الجزء الأول

الحكامة الرشيدة

الحكامة الرشيدة، تهذيب الحياة الوطنية، تعميم الأخلاق الحميدة، شأنها شأن التعددية السياسية، أمور يمكن أن يطالب بها بشكل صريح، وأن تمجد وتثمن، خاصة في ظل متسلط ومرتش يجيد التلاعب، في حين تتميز طريقته في التسيير بالضبابية وانتهاك الحقوق، وهو يمارس نظاما مضادا للدمقراطية.

يثير الموريتانيون العجب بقدرتهم على التكيف المادي والذهني و "الإيديولوجي". ففي مناسبات عديدة، أبانوا عن حذق بارز في جميع فنيات التسيير غير الرشيد، و"نسيان" كل الأخلاقيات، إلخ. الشاهد على ذلك: عقود الحالة المدنية المزورة، أتاوات المصالح العمومية، ضرائب لا تدفع، شهادات ومستندات ملكية وشركات وهمية، وتزوير منظم عبر صناديق الاقتراع، ومشاريع تنهب، ثم الصفقات، وما أدراك ما الصفقات! ...

لقد فاضت الكأس، في الحقيقة، بفعل الاختلاس والابتزاز، وجرائر الخبراء، والمحسوبية، والمحاباة، ونهب الثروات الوطنية وتدمير القيم الاجتماعية، إلخ.

إن "ما كان يقتل حياء في الماضي، ما عاد اليوم يثير خجلا"، بل صار مؤشرا على الشجاعة. هذه، في الحقيقة، هي مظاهر خدعتنا "الوطنية".   ومع ذلك، لا ينبغي أن نغلط في الإنسان الموريتاني، ولا أن نكون غير عادلين في حقه. يجب ألا نستهين بذكائه، ولا نفاذ بصيرته، ولا قدرته على أن يميز الرديء من الجيد. علينا ألا نلقي باللائمة تلقائيا على طبقته السياسية، ونخبته المثقفة أو على وظيفته العمومية العليا. إنه يستطيع أن يَميزَ بدقة بين المرتشين والفاسدين وبين المصلحين؛ وبين الأطر الأكفاء وغيرهم ، ومن  ينهب الثروات الوطنية ويدمر القيم الاجتماعية، ويقوم بالصفقات المشبوهة، وكذلك دُمى المنتخبين الذين لم يتم انتخابهم بشكل جيد، أو لم ينتخبوا أصلا، من الموظفين الفاسدين، الذين تمولوا بالطرق غير المشروعة.

 

القيم

لعرض "قيمنا" الضبابية، عدت إلى المحاور الثلاثة للمدونة المرجعية :

المحور الأول يتعلق بالقيم الأساسية، وعلى الخصوص احترام الحياة؛

الثاني : ترقية التضامن بين البشر؛

الثالث : له وشائج بالمحظورات الأساسية، وهي:

تحريم الكذب؛

تحريم الاستيلاء على ممتلكات الغير؛

تحريم الإضرار بالغير.

أما بخصوص الأخلاق (Ethique) بمفهومها الدقيق والأخلاقيات (déontologie) التي هي جانب آخر من القيم، وبينهما إئتلاف واختلاف. ويعرفهما أحد المعاجم ب "علم الأخلاق". الا أن هذا التعريف قاصر. كما يعرف معجم آخر(déontologie) ب "نظرية الواجبات الأخلاقية التي تنظم مهنة ما".

ويقول الأستاذ المغربي جمال الدين ناجي (منشورات جامعة محمد الخامس، الرباط 2002): "ما معنى "الأخلاقاية" (éthique) مقارنة ب"الأخلاقيات"؟ يحدث غالبا أن يلتبس الاثنان، فنستخدم أحدهما مكان الآخر. (تصوروا أن مصطلح "أخلاقيات" يعني في العربية (éthique) و (morale) بينما هذه الأخيرة يمكن أن تناسبها كلمة "قيم").

ما ذا نعني إذن بالأخلاقية (déontologie)؟

إذا كانت الأخلاقيات (éthique) قيمة ثقافية موروثة، وقديمة غالبا، فإن مدونة الأخلاقيات (le code déontologique )  هي مدونة قِيَمية يحدد في إطارها أهل حرفة ما، أو طائفة ما قواعد التصرف وضوابطه.

1-3 الثروات الوطنية

1-3-1 الحفاظ على الثروات الوطنية

لن أطيل هنا؛ فهذا الموضوع ربما يكون المشاركون في هذا المنتدى أكثر معرفة  بمآلاته.

سأذكر فقط، لمجرد التذكير، بأن الثروات الوطنية يمكن تصنيفها إلى:

الثروات المعدنية والبحرية والزراعية والحيوانية

الثروة التقليدية والتي تضم:

أماكن الذكرى (الآثار، حواضر القرون الوسطى، الحواضر التاريخية، إلخ)؛

المواقع الطبيعية (المشاهد الطبيعية بشكل خاص)؛

الثقافة التقليدية الحية (المخطوطات، اللغات، الثقافة المروية ، الموسيقى، الشعر، إلخ)؛

أشكال التعبير الجديدة (المسرح، القصة، الأقصوصة، الرسم، الخط، إلخ)؛

الصناعة الثقافية في الماضي والحاضر (الكتب، السمعيات البصرية، السجاد، الحصائر، الصناديق التقليدية، الملابس : مصبوغة أو مخيطة، الدراعة، المنتوجات الجلدية للصناعة التقليدية، إلخ).

سأشير كذلك إلى ضرورة  الحفاظ على تراثنا التقليدي الموروث المتعلق ب: المعادن، بالصيد، الزراعي، الرعوي ، وتلك هي المسؤولية الأولى للدولة. والحال كذلك بالنسبة للمجال العمومي، ومثله المجال الخصوصي. على الذين يتحملون المسؤولية السياسية، وكذلك مجموع المسيرين المباشرين، موظفو ووكلاء الدولة والمواطنون العاديون، الذين يجب أن يكون شغلهم الشاغل الحفاظ على هذه الثروات لأجيال اليوم وأجيال المستقبل.

لا ينبغي، بحال من الأحوال، أن يقع الإضرار بالمصالح الوطنية ولا الخارجية. غير أن الضبابية في تسيير الثروات الوطنية تحت الأرض من قبل شركات أجنبية تستدعي التساؤلات وتثير القلق بالفعل. هناك قلق كذلك بخصوص ثرواتنا السمكية، سواء تعلق الأمر بمنح الرخص أو أذون التصدير أو متابعة حماية شواطئنا من التلوث ومن الاستغلال المجحف.

بحسب تقرير حديث لصندوق النقد الدولي، فإن موريتانيا "... قد تكون البلد الأقل استفادة من مصادرها الطبيعية العديدة." فليس للحديد والنحاس والذهب والبترول أثر إيجابي ذو دلالة على الظروف المعيشية للسكان. في المقابل، تستفيد دائرة ضيقة من اللوبيات بشكل كبير من خلال عمولات يحصل عليها في ظروف مرييبة، عبر الضغوط على الإدارات (الوزارات والمؤسسات) عن طريق شخصيات نافذة مدنية وعسكرية مكلفة بتسيير القطاعات المعنية . هذا التداخل يفسر الإثراء الفاحش الذي ظهر في السنوات الأخيرة، والذي اشتغل أصحابه المتمولون حديثا في مجال البناء والعقارات، والصيد والبنوك، والتجارة العامة وأنشطة اقتصادية أخرى تمس قطاعات الحياة الاقتصادية الوطنية.." .

1-3-2 التوزيع  المنصف لثروات المجموعة الوطنية

إن التسيير العمومي لتوزيع الثروات الوطنية، يستلزم الصرامة والتقشف، والإنصاف بشكل أخص. هذا الإنصاف ينبغي حتما أن يطال:

الولايات بغية أخذ احتياجاتها في الاعتبار، دون نسيان التمييز الإيجابي لصالح الولايات المعزولة أو المتأخرة في مجال البنيات القاعدية: الطرق، مشاريع التنمية (الماء، الكهرباء، الزراعة، الرعي، إلخ)، والتجهيزات والخدمات الاجتماعية (المدارس، النقاط الصحية، إلخ)؛

المجموعات البشرية الهشة  (أدوابه، مزارعون آخرون بدون أراض، رُحَّل بدون مواش، إلخ) أو المعزولون جغرافيا (قرى بدون موارد)، إلخ.

الأشخاص المعاقون ؛

النساء المضطرات إلى أعمال قروية شاقة (جلب المياه، أشغال في الحقول، إلخ)،  اليتامى وسكان "الكبات" في المدن الكبيرة.

تشير جريدة "القلم" تعليقا على التقرير المذكور أعلاه إلى أن: "...العائدات الكبيرة لبعض المؤسسات الوطنية،  ليس لها انعكاس على الحياة اليومية للمواطن (زيادة جوهرية في الرواتب، نقص الضرائب أو تخفيض فعلي في أسعار المواد الغذائية ذات الأولوية) ولا على اقتصاد البلاد (بخصوص البنيات الوطنية الكبرى كالطرق السيارة، الكباري، المطارات بالمواصفات الدولية،  الجامعات، المستشفيات الحديثة المجهزة كما ينبغي)..." .

 

الجزء الثاني

2-1 التربية والتعليم

"يعتبر التعليم هو الحاجة الأولى لأي شعب، بعد الخبز"، كما يقول أحد الحكماء.

ويؤكد المؤرخ الفرنسي ميشلي (Michelet) أن التعليم سوف "يبقى ما بقيت الحياة" ...  ويضيف ردا على السؤال "ما الجزء الأول من السياسة؟ ":  " إنها السياسة!"  والثاني؟ ". قال: السياسة!"  والثالث؟ ، قال: السياسة!"

وفي هذا البلد الذي أسس شهرته الواسعة، ولفترات طويلة، على المكانة المتميزة للمحظرة ؛ ثم المدارس العمومية، التي هي إنشاء فرنسي، والتي سمحت، على الرغم من قلة عدد مرتاديها، بإرساء التعايش بين الشباب الموريتانيين من مختلف الطوائف والمناطق والمجموعات العرقية؛ مما يعتبر عنصرا أساسيا في تعزيز الوحدة والتلاحم الوطنيين.

واليوم، فإن المدرسة الموريتانية (إذا كان ما يزال لهذه الكلمة معنى) هي نقيض ما كانت وما ينبغي أن تكون عليه!

لقد قسمت الإصلاحات الماضية هذه المدرسة، تقريبا، على قاعدة أثنية وقد دفعت الوضعية الكارثية للمدارس العمومية وأداؤها الرديء أطفال الأوساط الثرية إلى التعليم الخصوصي (الحر). ومن الآن فصاعدا، تعتبر مدارسنا الهادم الأول للحمة الاجتماعية بين الإثنيات والطبقات الاجتماعية.

"على الرغم من كل المحاولات، بقي تعليمنا مفتقرا إلى المصداقية، مسجلا تقهقرا في المستويات وعدم اتساق مع متطلبات سوق العمل، علاوة على ضعف التأطير التربوي، وغياب التخطيط  والنقص في تحسين الخبرات والتكوين" حسب تصريح السيد الوزير الأول بمناسبة انعقاد "المنتديات العامة للتهذيب" يوم 3 فبراير 2013 . وأضاف: أن النظام التربوي في موريتانيا "لم يكن قادرا على الاستجابة لأبسط مستلزمات التنمية، ولا لآمال وتطلعات الأمة".

يتميز أداء مدرستنا، زيادة على مثالبه التنظيمية، بـ: تغيب المدرسين، نقص الكتب المدرسية، اكتظاظ قاعات الدروس (90 تلميذا)، انعدام الطاولات في الأغلب الأعم.

وفي هذا الصدد، فإن منتديات عامة للمدرسة تعتبر أولوية من أجل تأسيس مدرسة موريتانية موحِّدة وفعالة، تعطي لتعليم اللغات الوطنية،  المكانة المناسبة، وتقدم معارف متكيفة مع العصر، مستجيبة للاحتياجات الفعلية للبلد، وخاصة من أجل التنمية الاقتصادية، مع الاستثمار المدروس لثرواته، وتكوين أطر يستجيبون لحاجات مواطنينا التي لا حصر لها.

2-2 الصحة

تعتبر الصحة الخدمة الأخرى التي لا غنى عنها لرفاه شعبنا. غير أن وضعها الحالي شديد القتامة. نتيجة الارتجالية التي ميزت تشييد الوحدات الطبية المفترض أن تؤمن استقلاليتنا، للاستغناء عن الابتعاث الرسمي والخصوصي لمرضانا بغية العلاج في الخارج، مما يستنزف مبالغ هائلة من مواردنا . ومن ناحية أخرى، اتضح أن التجهيزات، المشتراة بأسعار لا تخلو من محاباة، تجهيزات غير صالحة. وتستمر رحلة الموريتانيين بغية العلاج إلى أوربا، السنغال، المغرب، تونس. وعلى الرغم من إعادة تأهيل المستشفيات والمستوصفات، داخل البلاد، بمبالغ مالية ضخمة، فإن تجهيزاتها بالية، والأدوية فيها معدومة، ووسائل التشغيل شحيحة، إضافة إلى ضعف تأطير الأطباء والممرضين المتخصصين.

التطور الوحيد الملحوظ في ميدان الصحة يتمثل في نجاح حملات التلقيح العديدة للأطفال من سنة إلى خمس سنوات ضد الأمراض الرئيسية المؤثرة في الطفولة الصغرى.

في المقابل، ما تزال الملاريا مستشرية، والسل الذي كان في تراجع، عاد للظهور بشكل أكثر فتكا منه في الفترة السابقة. يضاف إلى ذلك الأمراض "الأيضية" (métabolisme)  والإسهال والسرطان وارتفاع ضغط الدم والسكري، إلخ.

2-3 التشغل

ان التشغيل وهو - الى جانب التعليم والصحة – من بين الثلاثي المفترض توجيهه لخلق شباب صحيح في جسمه وعقله وجاهز للاندماج في الحياة النشطة، يوجد اليوم في حالة يرثى لها. وفي هذا الاطار يجدر اقتراح ما يلي:

وضع سياسة للتشغيل تتلاءم مع ظروف ومتطلبات وحجم اقتصادنا وسوق العمل لدينا.

2- إعادة هيكلة القطاع العمومي وشبه العمومي، عبر وضع (م ميثاق أو مدونة، على سبيل المثال، تكون على درجة من الصرامة والعقلانية بحيث تمنع توزيع المناصب الحساسة مكافأة للأنصار.

3.  منح سلطات وصلاحيات جديدة للمجلس الأعلى للوظيفة العمومية المتكافئ الأطراف، تمكنه من وضع الوظيفة العمومية، قدر المستطاع، بمنأى عن التهديدات الجلية والخفية، المعلنة أو المبطنة، وعن المضايقات، دون أن يعيق ذلك التسيير الاعتيادي والمنتظم والشرعي للسلطات العمومية.

لا وجود لسياسة تشغيل حقيقية في بلادنا. ومدرستنا اليوم هي المصدر الأول للبطالة، والاكتتاب لا يستند إلى مسابقات أو مرجعيات حقيقية، بل إلى التعيين المتروك لمحاباة السلطة السياسية.

لقد حان الوقت لأن يكون الإنصاف المبرر والمعيار الأساسي للاكتتاب في أي منصب أو شغل أي مركز في الوظيفة العمومية، وشبه العمومية والمؤسسات ذات الشراكة المختلطة. كذلك، حان الوقت لأن توجه المدرسة إلى احتياجات التشغيل بمختلف المستويات (العالي والمتوسط، العمومي والخصوصي، إلخ).

 

الجزء الثالث:

الوحدة الوطنية

بغض النظر عن الانتماء المثري للهويات والثقافات الخاصة باللغات الأم، وللولايات والجهات، يبقى ترسيخ الوحدة الوطنية والتعلق بها الضامن الفعلي للسلم الاجتماعي وللتعايش المنسجم.

 

3-1 العدل

لقد أقنعتني التجربة الأخيرة بجوهرية أمرين مطلوبين من العدالة: حق كل أحد في محاكمة عادلة والسير العادي لهذه العدالة.

نظريا، تتضمن القوانين الأساسية الموريتانية من 1957 إلى 2007 (الدساتير والمواثيق الدستورية)، النصوص التشريعية والتنظيمية، والإجراءات الضامنة لاستقلالية العدالة، والمساواة بين المواطنين أمام القانون، وضمان المحاكمة العادلة. ولكن الواقع مختلف. فالعدالة كانت دائما ضحية تدجين من قبل السلطات العمومية المتعاقبة. كما أنها عانت أزمة متعددة الأشكال (أزمة ثقة، أزمة سلطة،أزمة مصداقية، أزمة وسائل، أزمة كفاءات إلخ) أفقدتها صدقيتها وقوضت ثقة المواطنين فيها... مع الاستقلال الذاتي، سنة 1958، كان النظام القضائي، زيادة على مضاعفات الثنائية والعدالة المستلهمة من الفرنسيين، ضحية لمركزية حادة ومحل ضغط ومكيدة من كل الأنماط، مما عاقه عن القيام بمهامه كضامن لنظام اجتماعي عادل ومنصف باعتباره آلية للتنمية والسلم المدني. وأكثر من ذلك خضعت العدالة للضغوط، مما أفقدها مصداقيتها لدى الشعب. كانت على الدوام محل أنواع مختلفة من الضغوط، وبشكل خاص من السلطة السياسية، ومن الإدارات، ومن الوجهاء التقليديين ومن المال... إلى ذلك، كان تسييس العدالة ، وبكل موضوعية، نتيجة عادية للتلاعب الدائم من قبل الأحكام المتعاقبة على البلد.

من جهة أخرى، وفي مواجهة ضغوط الأثرياء والمتملكين ، ومنذ زمن طويل، كان موظفو العدالة تحت رحمة "أغراضهم" بفعل وضعيتهم المادية المزرية. إن ضعفهم أمام الرشوة يؤثر بشكل خطير على مساواة المواطنين أمام العدالة العادية. وكذلك، ينضاف إلى نقيض العدالة المتمثل في "العدالة السياسية"، رديفه و صنوه لمتمثل في "عدالة البطن".

يقود الاهتمام بتحسين الدخل بكل الوسائل، حتى غير المشروعة، بعض القضاة، وأعوان القضاء وحتى المحامين، إلى أن يولوا أكثر اهتمامهم لحجج الأقوياء، كل الأقوياء...

وفي هذا المضمار، تستحق جهود المحامين الموريتانيين، منذ عشرين سنة، كل التقدير فيما يخص تصميمهم على:

معارضة ولاء العدالة للأحكام السياسية المتعاقبة؛

نضالهم لصالح استقلال القضاة، والإعانة القضائية من أجل التقدم باتجاه ترسيخ مفهوم المحاكمة العادلة؛

تنظيم لفيف دفاعي عن المتهمين سياسيا دون تمييز سياسي، أو اعتبارات جهوية، أو أثنية .....

الإيثار الفردي والجماعي في العون الذي يقدمه المحامون الموريتانيون،فرديا وجماعيا، للمتهمين والمتقاضين أو المعوزين ماديا، والمساعدة السخية لأسر المحكوم عليهم خاصة الأسر المعدمة، إلخ؛

وسنقدم، بشكل عابر، بعض المتطلبات، غير الحصرية بالتأكيد، من أجل توجيه إصلاح العدالة نحو الاستقلالية والإنصاف:

تعزيز الاستقلالية الفعلية للعدالة، بإنشاء هيئة إدارية دائمة في المجلس الأعلى للقضاء مستقلة تماما عن وزارة العدل؛

التفعيل الحقيقي لحضور المحامي منذ التوقيف، وفقا لترتيبات القانون الجنائي؛

جعل اللامركزية القضائية واقعا فعليا بتخصيص الوسائل البشرية والمالية الضرورية للهيئات القضائية؛

ضمان تنفيذ قرارات العدالة ووضع حد لتدخل السلطة التنفيذية؛

توحيد  تكوين القضاة عن طريق إنشاء معهد عال أو مدرسة وطنية للقضاء،تستجيب للمعايير الدولية؛

جعل الإعانة القضائية أمرا ملموسا (بتوضيح مفاهيمها وشروطها، وبوضع آلية عملية ناجعة لها؛

الرفع من مكانة كتاب الضبط، باعتبارهم باب الدخول إلى العدالة، ورافعة مهمة لضمان حقوق المتقاضين؛

تنظيم مهن عدول التنفيذ (huissiers) والخبراء القضائيين لضمان انسيابية العدالة؛

وضع مدونة لأخلاق مهنة الشرطة والسهر على احترامها بشكل صارم.

3-2 الحل النهائي لقضية الإرث الإنساني

تعتبر قضية المبعدين والإرث الإنساني شوكة في حلق الوحدة الوطنية، حيث ابعد آلاف من الرجال والنساء في عام 1989 من البلاد، في أعقاب الأحداث التي وقعت بين منمين موريتانيين ومزارعين سنغالييين، ثم تضخمت القضية سياسيا فيما بعد؛ مما أدى إلى ترحيل آلاف الموريتانيين إلى السنغال ومالي ردا على طرد موريتانيين وسنغاليين من أصول موريتانية إلى موريتانيا، على اثر مقتل مواطنين من كلتا الدولتين.

وقد تفاقمت هذه الحادثة بإعدامات تعسفية خارج نطاق القانون لعدد من المدنيين والعسكريين الموريتانيين السود وبعمليات فصل لعدد من أطر الوظيفة العمومية المنتمين إلى هذه المكونة من السكان.

وقد نجم عن ذلك نعميق لسوء الفهم وتفاقم في الظلم. وتجسد ذلك في:

- عدم تلقي الضحايا، ومن لهم الحق، جميع المعلومات بغية معرفة الحقيقة ؛

- لم يكن  للضحايا الحق في تعويض عادل؛

- اعتمد البرلمان، عام 1992، قانون العفو الذي يغطي وقائع انتهاك حقوق الإنسان التي حدثت خلال الفترة المعنية؛

لقد تم السماح بالعودة الفردية للاجئين منذ 1995 حيث عاد فعلا 35.000 منهم الى موريتانيا.

الا أن القطيعة الحقيقية مع هذه الوضعية لم تحدث الا من خلال خطاب رئيس الدولة في 29 يونيو 2007 والذي اعترف فيه بتجاوزات الماضي، في السنوات 1989 و 1990 و 1991، ومع خلاصات أعمال المنتدى الوطني في 2007 التي رسمت الطريق أمام حل مشكلة العودة المنظمة للاجئين والمبعدين في السينغال ومالي. ويبقى الآن انهاء عملية هذه العودة وتثبيت العائدين. ويتعين، من وجهة نظرنا، أن تستند مراحل حل هذه القضية على:

– تفعيل وتجديد اللجنة الوزارية المكلفة بالعودة المنظمة للاجئين الموريتانيين في مالي والذين تم إهمالهم؛

تنظيم  أيام وطنية جديدة للتشاور من أجل حل المسائل العملية المتعلقة بأوضاع اللاجئين وربما المسفرين من السنغال في عام 1989؛

ولتسوية نهائية وتوافقية لهذه المسألة المؤلمة، يتعين أن تضع الجهود الكبيرة التي بذلت (صلاة كيهيدي، التعويضات الجزئية..) أو المبذولة حاليا من قبل السلطات العمومية، حتى لا ينظر إليها على أنها محاباة تتجاهل المبادئ الأساسية للعدالة - خاصة الانتقالية - ينبغي إذن أن تضع في الاعتبار المتطلبات الأساسية التالية:

-حتمية الحقيقة؛

-حتمية العدالة؛

- ضرورة التعويض العادل والمتفق عليه مع الضحايا أو من له الحق؛

-. ضرورة الصفح كي تتمكن البلاد من طي هذه الصفحة؛

3-3 استئصال العبودية

" على مر التاريخ، كان هناك دائما رجال يريدون الهيمنة على آخرين وينجحون في ذلك؛ وقد استطاعوا بفعل قوتهم، أن يجبروا الضعفاء على خدمتهم، والعمل لديهم دون منحهم أي تعويض مقابل عملهم، وهم يمنحون أنفسهم الحق في بيعهم أو شرائهم كأدوات أو دواب، ويسيئون معاملتهم أو يقتلونهم...  من يستطيع أن يقول أوضح من هذا المقال؟ من يمكنه أن يصف بأوضح من هذه العبارات هذا الشر العالمي الذي ينخر بقسوة هنا وفي أماكن أخرى ...

لقد قدم هذا الاستشهاد المنقول من كتيب "قُصَّي علي عن الاستعباد" نشرته اليونسكو في باريس سنة 2006، وصفا دقيقا وكافيا للإستعباد.

الرق هو حق الأقوى وقانونه في مقابل الحرمان من أي حق (أو يكاد) للآخر الضعيف، المهزوم.  ومنذ فجر التاريخ، وهو يمارس على جميع الأجناس، وفي كل المواقع، والبلدان والأصقاع والقارات على كوكبنا الأزرق!

ولكن، ما معني العبودية ؟

على المستوى الدولي، عرفت العبودية قانونيا من قبل الاتفاقية الدولية لعام 1926، وهي أول وثيقة قانونية توافقية، وذلك بالعبارات المقتضبة التالية "...نها حالة أو ظروف شخص ما تمارس عليه مقومات الملكية، كلها أو بعضها "

عندما أصبحت البلاد دولة مستقلة، وتحت ضغط من المطالبات التحررية في السبعينات، تم اعتماد مجموعة من النصوص من أجل التخلص من هذه الظاهرة دون تجريمها مع ذلك.  ومن الضروري إذن قياس فعالية هذه النصوص.

لقد كان مسلسل حظر العبودية في موريتانيا، من فترة الاستعمار إلى يومنا هذا، كارثيا وضبابيا.  ولكم أن تحكموا بأنفسكم …

حظر الرق في موريتانيا بالنصوص ( ضمنا و / أو صراحة ):

أولا، بشكل غير مباشر بسبب نظم الحماية الاستعمارية المتعاقبة: إقليم من أقاليم ما وراء البحار ، ثم استقلال ذاتي تابع لفرنسا ( 1903-1960) وهي الدولة التي ألغت الرق منذ عام 1848 . ثانيا، بصورة مباشرة أو ضمنية من قبل الدولة ذات السيادة عبر :

- ديباجات الدساتير للأعوام 1959 ، 1961 و 1991 ؛مدونة الشغل 1963؛- القانون الجنائي لعام 1963؛- التعميم الصريح بتاريخ 16 مايو 1966 المتعلق بـ"اختفاء العبودية" الموجه من قبل السيد محمد الأمين ولد  حامني، حافظ الخواتم، وزير العدل والداخلية إلى جميع حكام الدوائر في البلد- الأمر القانوني رقم 81/234 بتاريخ 9 نوفمبر 1981 والذي يحظر الرق -الامر القانوني رقم 83/127 الصادر بتاريخ 5 يونيو 1983 بشأن إعادة التنظيم العقاري؛ - قانون الشغل الجديد الذي يعاقب على الاتجار بالبشر؛ القانون رقم 017.2004، بتاريخ 6 يوليو 2004 المتضمن قانون الشغل والقانون رقم 2003.022 بتاريخ 17 يوليو 2003 بشأن ردع الاتجار بالبشر؛ حيث يحدد كل منهما عقوبة الأشغال الشاقة دون أن يجرم الاستعباد بوضوح وبصفة صريحة؛ - القانون رقم 2007-048 بتاريخ 03-09-2007 والمجرم للعبودية ويعاقب على الممارسات الاستعبادية. -التعديلات الدستورية عام 2012 التي ساوت ممارسات الاستعباد بجريمة ضد الإنسانية؛ - مشروع قانون بشأن إنشاء محكمة خاصة لجرائم العبودية، الذي صودق عليه يوم 30 ديسمبر 2013 من قبل المجلس الأعلى للقضاء، برئاسة السيد رئيس الجمهورية.

ينضاف الى ذلك التصريح الذي أدلت به المقررة الخاصة للأمم المتحدة المكلفة بالإشكال المعاصرة من العبودية، بتاريخ 27 فبراير 2014 في إعقاب زيارتها الاستطلاعية لموريتانيا، والذي نورده بوصفه عنصرا جديدا يتعلق بالموضوع، حيث قالت بالحرف الواجد : "...ستعتمد موريتانيا خلال شهر مارس خارطة طريق للقضاء على العبودية".

ومع كل ذلك فاننا لا زلنا ننكر وجود العبودية في شكلها الخبيث ومخلفاتها الذهنية، والأيديولوجية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية الخ.

ملحوظة: مشهد الآثار السلبية للرق في وقتنا الحاضر: الفقر والبؤس الاقتصادي والنفسي كنتيجة دائمة للعبودية، وذلك على الرغم من التقدم الملحوظ،. ان استمرار ممارسات ومخلفات العبودية تتجلى أولا باعتبارها بعدا نفسيا، كما تتجلى أيضا على شكل شعور بالخضوع لهيمنة اقتصادية، تلخص في حد ذاتها مجموعة العلائق التي لا تزال تربط بين أحفاد العبيد وأبناء أسيادهم السابقين.

 

الجزء الرابع: المسلسل  الديمقراطي

ما هي  الخصائص التي تميز روح الديمقراطية؟

أ النقاش الجدي والمسؤول والمنظم للقضايا ذات الصلة بالمصلحة العامة؛

ب  رفض أي استحواذ سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي على مقاليد السلطة بالإكراه أو المناورة؛

ج  رفض أي احتكار أو امتيازات في الاقتصاد الذي ينبغي أن يوفر للجميع، وبصرامة، فرصا متساوية.

ولجعل القوة العمومية في مأمن من تسلط القوة الاحتكارية موضوعيا أو ذاتيا، يتعين أن نضمن:

وضع "ميثاق شرف" أو "مدونة لقواعد السلوك " أو فلنسمها كما نشاء، على أن تجمع العناصر الأساسية المعنية من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، حول القضايا الحرجة التي هي فوق كل الاعتبارات الحزبية: الحدود الوطنية، الشكل الجمهوري والتعددي للدولة، التداول على السلطة بشكل سلمي وديمقراطي، إدانة كل الأعمال التخريبية، الدفاع عن العملة الوطنية، حياد الدولة وآلياتها الخ.

-  صياغة الضوابط التوافقية والموثقة لتعاون صريح وشامل ومسؤول بين الإدارة الإقليمية والأحزاب السياسية حول تنظيم العملية الانتخابية برمتها، بدءا بإعداد اللوائح وحتى إعلان النتائج.

 تعزيز فعالية واستقلالية وحياد السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية؛

وفي فهمنا أن الديمقراطية هي نقاش أفكار حول مشروع مجتمعي:  أي تسيير اقتصادي لموريتانيا؟ أي تعليم؟ أي سياسة صحية؟ أي  سياسة للتشغيل؟ الخ. أي طريقة لضمان مسلسل موثوق ومقبول وتوافقي؟ ويجب ان يكون التفاوض والحوار هما أداة هذا النقاش.

بهذه الطريقة فان أي اتفاق بين الطرفين، المعارضة والأغلبية، على المسلسل الانتخابي، يجب أن ينتج عنه تشكيل جهاز تنفيذي إداري، ويفضل أن يكون مكونا من الطرفين ومؤقتا يقود العملية بدءا بالإحصاء الإداري، وحتى إعلان النتائج، وتكون له سلطة فعلية على الإدارة الإقليمية.

إذا كان تعيين لجنة من الحكماء (اللجنة المستقلة أو غير ذلك) مناسبا، فسوف يكون فقط لتغطية الفترة التي يغطيها التشاور وتناط بها مسؤولية محدودة ومحددة المعالم بدقة .

 

الخاتمة

سيدي الرئيس، سيداتي سادتي

الوضعية ليس ميئوسا منها. وموريتانيا ليست سدوم أو عمورة . الموريتانيون يقبلون، وقبلوا دائما، قواعد وشروطا صعبة إذا كانت عامة. إنهم على استعداد للمحاكاة عندما يكون ذلك ممارسة للجميع . ويمكنهم أن يدخلوا في اللعبة بجدية وانضباط عندما يتأكدوا أن هناك تكافؤا في الفرص

السلطة الوحيدة التي تعتبر الأغلبية الساحقة من المواطنين على اتصال يومي بها هي الإدارة.  وغالبا ما تكون مصدر دخلهم الضئيل، وهي السيف المسلط فوق رؤوسهم : متغطرسة ، مهددة، ومخيفة. انهم يوفرون لها مطالبها: الرشوة، والقبلية والانقسامات، الخ

 يرونها، في كثير من الأحيان، كأنها سلطة أجنبية معادية، يجدون من المشروع أحيانا عدم دفع الضرائب المالية المباشرة، والرسوم الجمركية أو مختلف الرسوم الأخرى.

وبالتالي، لا يزال من الضروري إقناعهم بأن الدولة والإدارات ومؤسسات القطاع العا . قد تغيرت،.كما يزال من الضروري أن نقنعهم بأن تسيير الأموال العمومية سيكون من الآن فصاعدا صارما ودقيقا وشفافا.

إن موريتانيا جديدة في حالة تشكل لا أحد له الأبوة عليها، ربما باستثناء احباطنا ومللنا العام والمبرر بعديد الآمال التي تلاشت، وبالكثير من الإحباطات، وعدم قدرتنا النسبية والمؤسفة على التعايش الجماعي منذ 28 نوفمبر 1960، وعلى التسامح، وقبول حق الآخر في أن يكون مختلفا، دون كراهية، ودون حقد، بشكل أخوي تجسيدا للإنصاف والتعقل.

فكم من وشائج توحدنا: العقيدة، أواصر الدم العابرة للأثنيات والأعراق، نضالاتنا المشتركة إلخ.

الا أن كل هذا لا يكفي لضمان الاستقرار، والسلم، والتعايش. ففي بلدان أخرى متجانسة، وقع الانفجار لأسباب غبية وتافهة وغير ذات جدوى ...

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

محمد سعيد ولد همدي

نواكشوط، 28 فبراير 2014

ــــــــــــــ

*نص الورقة التي كان قد قدمها المرحوم محمد سعيد ولد همدي خلال أعمال الدورة العامة الأولى للمنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة المنظمة في قصر المؤتمرات بتاريخ: 28 فبراير، 1و2 مارس 2014