الأشرار يعيشون بيننا

أحد, 2015-08-30 14:04
فاطمة الشيدي

في مكتب نظامي لتخليص معاملات معينة، تحضر باحترامك لفكرة النظام، تأخذ موعدا من آلة مخصصة لجعل الزمن هو الفيصل في الأقدمية، والنظام هو الحكم فيها، وتبدأ رحلة الانتظار الطويلة. ولكنك ستتفاجأ بأن هناك ابتسامة ستمرر مكانها قبل موعدك، وزيا رسميا بشارات عديدة سيتقدم دورك، واسطات ومحسوبيات، ومعارف وجهلا يزحف أمام انتظارك ووقتك، يزحف على أعصابك التي ليس عليها إلا أن تفلت أخيرا، فقط لتدلل على إنسانيتك، ولتحاول ببساطة قول «لا» لهذا الفساد الذي ينخر الإنسان العربي في قيمه وأخلاقه.
وحين تدخل مع الموظف في حوار غاضب قليلا عن كل هذه الفوضى، وهذا الترهل في مؤسسته، سيقول لك: «تعرف أن بلداننا لا يمكن أن يطبق فيها النظام بشكل كلي ومطلق». لماذا؟ ستصرخ في وجهه ببلاهة واستغراب، وقد استوردنا كل أسباب النظام، وعلاماته البسيطة. سيقول: لأن إنساننا لا يمكن أن يلتزم، فهناك قوى كثيرة فوق سلطة القانون كقوة المال والسلطة، فالقانون لا يسري على الجميع بنفس المنطق، وسيثرثر كثيرا حول انعدام ثقة الإنسان بالقانون والنظام. ستنظر في عينيه بقوة، وأنت تدرك أن ما يقوله صحيح، وأنه مجرد حلقة صغيرة من حلقات الفساد، وتقول له: وماذا عنك؟ ألست من هذا الإنسان؟ أليس هذا دورك في فرض النظام في هذه الدائرة الصغيرة والخاصة، لتكبر وتصبح مظهرا اجتماعيا وثقافيا عاما؟ سيصمت، وتصمت، ولا حل.
في مكان عام قرب البحر اعتدت أن تذهب إليه لتخلّي قليلا بينك وبين حمولاتك الداخلية الثقيلة جدا، تجده مخرّبا بوحشية، المراجيح، الكراسي، الطاولات، وكل أثر للجمال، وكأن يد عدو أو وحوش ضارية جاست في المكان خرابا. ستتساءل داخلك بوجع، لماذا يحدث كل هذا؟
الكثير من الأمكنة تزورها في بدايات تكونها؛ فتنشرح روحك لجمالها، وليس إلا قليلا، فلا تكاد تتعرف عليها، فالمرافق والأدوات والخدمات العامة مستباحة وعرضة للتخريب والتهشيم، ما لم تُحط بحراسة شديدة، أو مراقبة أمنية مشددة. فالحمامات تصبح مدمّرة، والهواتف العمومية منتزعة، ولا أحد ينهى عن هذا المنكر، ما عدا من يقع تحت وظيفة المراقبة المسؤولة كالشرطة، ومن في حكمهم، وكأننا بحاجة لشرطي أو رقيب خارجي يحكم ويحاكم كل تصرفاتنا البسيطة من قول أو فعل، أو وضع كل شيء ضمن فكرة الرقيب الخارجي كي يتم الحفاظ عليه. أما دون ذلك فالرقيب الداخلي معطّل تماما، فلا أحد يقول لأبنائه مثلا لا تعبثوا بالممتلكات العامة، فهي حق لكم، ولغيركم، فتعاملوا معها بمسؤولية ووعي، ولا أحد يحاكم الأشرار الذين يعيشون بيننا.
الأشرار الذين أقصدهم هنا ليسوا شخصيات مخيفة، ولا قادمة من كوكب آخر، إنهم منا وفينا، يجلسون إلينا، يحبوننا ويسامروننا، وقد يعيشون تحت جلودنا. الأشرار هنا مثقفون وطيبون، آباء وأمهات يفكرون في مصالح أطفالهم وينفقون على آبائهم العجزة. أصدقاء وزملاء، أساتذة جامعات، وأطباء، ومعلمون، لكنهم لا يتورعون عن فعل الشر أحيانا، أو لا ينهون عنه في أبسط الأحوال. لم يتربوا على الفضيلة الكامنة في الضمير الحي، خارج فكرة الرقيب، ولم يربوا أبناءهم عليها أيضا، فهي لا تدخل في القاموس النفعي الذي يعيش عليه المواطن العربي.
هؤلاء الأشرار يلبسون أقنعة رصينة جدا، وجميلة جدا، وبسيطة جدا، فقد يكون منهم زميلك الذي يبادرك بابتسامته الصباحية كل يوم، وتحيته الحارة، ولكن ما أن يوضع في موضع المسؤولية حتى يقصيك عقابا على شيء لم تفعله، خوفا منك، أو نكاية بك. وجارك الذي يعاملك بطيبة أو بنفاق ورياء في أحسن الأحوال، ولكنه في العميق منه يغار منك، من بيتك أو من عملك أو زوجتك أو أطفالك، يحقد عليك ويحسدك، ويتمنى زوال ما عندك. والعامل الذي تحضره لبيتك لإصلاح عطل ما، ولكنه لن يتورع عن إيذائك، واستغلالك، وسرقتك. شخص تعرفه وربما أسديت له معروفا ولكنه لو اقتضت الضرورة لن يكف يده ولسانه عنك، للنيل منك أو الكيد لك. وآخر لا تعرفه، ولكنه سيسعى في توريطك في مشكلة ما أو سلبك عملك بقصد أو بدون قصد، أو حتى تلويث سمعتك بسوء مع الآخرين.
هناك مثلا سائق الأجرة الذي ما أن يلمح غريبا عن المكان حتى يصبح صوته أحن وذمته أوسع، وسيحلف لك بكل الأديان أنه أحبك من أول نظرة، وسيحدّثك عن ابنه المريض، وزوجته الطيبة حتى تظن أنه إنسان حقيقي فعلا، وتتعاطف معه، وتأخذ وتعطي معه، وربما تتشكل داخلك مشاعر ودّ واحترام تجاهه، حتى يلدغك في سعر خرافي لتوصيلة عاجلة، وربما وضعك في مكان خطأ مستغلا جهلك، أو كذب عليك كذبة كبيرة عن المكان والإنسان، هذا إذا لم يفعل ما هو أكثر فحشا وظلما، كمحاولة بعضهم اصطياد النساء لسرقة متعة سريعة أو لذة عابرة بلا حق ولا أخلاق.
ويتفاوت حجم الشر بين الأفراد، بدرجة غياب القانون، ومستوى المحاسبة، وقليلا جدا حسب الوازع الديني أو المنظومة القيمية، كما يتفاوت حضوره في حياتك حسب قدرتك على فهم الأشرار، ومخالطتهم أو تجنبهم، وربما حسب الحظ غالبا. فلا علاقة له بالمكانة الاجتماعية، أو المستوى المادي، أو مستوى التعليم، فهو عميق ومتأصل وبسيط كالماء، وربما مسوّغ أيضا من قبل المجتمع. فالمال العام مباح من قبل المسؤولين والتجار وأصحاب الكراسي بحق المنصب، ومال الأغنياء في أعين الفقراء مباح لسرقة القليل منه لأن لديهم الكثير، ومال الدولة مباح للمواطنين فهي أمهم المسؤولة عنهم أو بقرتهم الحلوب. ومال السائح الغريب مباح للجميع، لسائق التاكسي، ولصاحب المحل، ونادل المطعم، والبائع المتجوّل، والشحاذ، وماسح الأحذية، والصبي الصغير الذي يتعلم فنون سلب المال قبل أن يتعلم القراءة والكتابة أو حتى القرآن الكريم. فكل هؤلاء من سحنتك وصوتك يقدرون حجم النصب الذي يمكن به أن يسلبوك المال، باسم الفقر، وباسم الله أحيانا كثيرة. وهم في قرارة أنفسهم لا يعتبرون هذا شرا، فهذه التصرفات لا تعكس قلب الفرد الطيب في داخله والذي يتمنى الخير للجميع، ولكنه مضطر أن يفعل ذلك ليعيش، مضطر أن ينصب قليلا، ويغش قليلا، ليحيا، وهذا لن يؤثر على الآخرين، فلن يموت أحد مثلا من تسخين طعام بائت في مطعم فقير، ولن تتأثر ميزانية سائح من مئة دولار لتوصيلة، ولن يحدث زلزال في الكون من كذبة ما.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا، هل ولد الأشرار هكذا؟ أم هم من صنيع المجتمع، ونتيجة للظلم والقهر الذي يعانيه الإنسان؟ والإجابة بالطبع لا تحتاج إلى ذكاء، إنها بدهية جدا، لقد صنع المجتمع العربي أشراره بيديه، وقدّم لهم كل المسوغات الإنسانية والمادية ليتمكنوا من الحياة في غابات الشر، وحكومات الفساد والقهر والظلم، حتى ضاعت القيم الإنسانية الناصعة جدا، والواضحة بحيث لا تقبل اللبس، ولا تحتمل الوسطية، فلا مسافة وسطى بين الكذب والصدق، وبين الأمانة والغش. هذا ناهيك عن قيم النبل والكرم وغيرها من مصادر الرفعة الأخلاقية الإنسانية، ولكن للأسف أصبح لدينا معايير أخرى، وقيم وسطية ووسيطة كثيرة، وأخلاق متفاوتة جدا، وضمير غائب غالبا خارج الرقيب، ولذا انعدمت الثقة في الإنسان وفي الحكومات وفي القانون أيضا.
نعم، في كل مكان من هذه البسيطة المترامية ثمة أشرار ومجرمون وقتلة، لكنهم واضحون أو يذهبون في اتجاه اجرامي فقط، يمكن للشرطة أو أي جهة قانونية محاسبتهم وتوقيفهم. ولكن في بلداننا، الأشرار يعيشون بسلام ومحبة بيننا، والشر كامن ومتخف، ويلبس أقنعة لامعة وطيبة، وهو جاهز للمثول بين يديك في أي لحظة، أو تحت أي ظرف أو موقف، ولا أمل في تفاديه فهو متوزع في الجميع تقريبا، أو الغالبية من باب العدل والإنصاف. ولا أمل في تلاشيه في غياب النظام، وتراخي القانون أو تفاوت حضوره بين شخص وآخر، وغياب المسؤولية الأخلاقية، وتردي الأحوال الاجتماعية، وتأرجح القيم. ولذا سيظل الأشرار يعيشون بيننا، وربما يعيشون داخلنا أيضا، ابنك أو أخوك، تلميذك أو أستاذك قد يكونون من الأشرار، وربما أنت نفسك منهم مع الآخر أو حتى مع نفسك.