الفقه والقانون وفضائل المقارنة

سبت, 2015-09-05 15:56
الكاتب والباحث عبد الله ولد بو

تعتبر ثقافة الحقوق قنطرة المجتمعات المدنية وموئل تقدمها الانساني، مرد ذلك أن جزءا كبيرا من حاضرها ومستقبلها لابد أن تتداركه هذه الثقافة، وإلا انحل ميزانها ووهن العظم منها، كما لابد لهذه الثقافة أن تستوعب خلاصة التفكير الحقوقي المحيط بها، سعيا إلى مواكبة التفكير الحقوقي المتمدن ومتطلباته.

إن ثقافة الحقوق ومقارنتها تظهر جليّة في المعاملات والأعراف وطرائق الادارة لدى المسلمين الأوّل، بل إن التاريخ لا يشهد حضورا كبيرا مثل الحضور الذي يعيشه بيننا اليوم الفقهاء الأوائل،  من خلال ما أبقوه من ثروة فقهية.

وتشهد أحداث القرون الأولى أن المسلمين الأوّل وفي لحظة انبعاثهم، لم يترددوا في استيعاب ثروات الأمم والنهوض بها، فاستوعبوا قوانيين خراج الأرض ومقاديرها، وقوانيين الادارة، ومزجوا الكثير من أخيلتهم في آدابهم، كما استعانوا في دوواينهم و سياسة دنياهم بالكتبة من الفرس والروم وغيرهم ... .

وعلى الرغم من أن هذه الثقافة كانت سمة لدى فقهاء مدرسة الرأي، إلا أنه سرعان ما تبنى الفقهاء المحافظون من أهل الحديث والأثر هذا الثقافة مدّخلا لاستيعاب أوعية الاختلاف.

فقرائح الفقهاء الأوّل أنتجت ثروة فقهية رائعة المثال تنوعت مسالكها وتعددت مناهجها واتجاهاتها، لكن المصادر التاريخية لاتشير لهذه النماذج إلا من طرف خفي، اللهم إلا ما حفظ لنا الفقه التاريخي من ملامح نادرة المثال لدى مدارس الفقه الثلاث التي عنيت بالأثر وهي المالكية والحنبلية والشافعية، وهي قصة لم تكتب فصولها لدى تعقل التطورات المنهجية لثقافة الحقوق ولهذا العلم الجليل.

يروي لنا القاضي عياض اليحصبي السبتي (ت 544) أن أسد بن الفرات القيرواني (ت 124) جلس إلى الامام مالك بن أنس (ت 179) فقيه المدينة، فتوسم فيه الرغبة في تلقي العلم، لكنه أشار إليه مغاضبا أن يطلب فقه الافتراض عند أهل الرأي(1).

رحل ابن الفرات إلى الكوفة وتفقه على علي بن يوسف (ت 182) ثم اصطفاه منه محمد بن الحسن الشيباني(ت189) بعد أن لمح فيه النجابة واعمال النظر، حتى بلغ به أنه إذا رآه نعسا نضح في وجهه الماء، ارتحل ابن الفرات قاصدا مصر فوفد على عبد الله بن وهب ( ت 197) تلميذ مالك في مصر، فسأله ابن الفرات أن يجيب على كتب أبي حنيفة وفق مذهب مالك، فتورع عن ذلك ابن وهب وأبى، توجه عندها لابن القاسم (ت 191) صاحبه في مجلس مالك فأجابه لطلبه يقول ابن الفرات : "كنت أكتب أسئلة العراقيين بالليل على قياس قول مالك، فأغدو بها صباحا فأسأله عنها حتى دونت نحوا من ستين كتابا هي الأسدية، أخذها عن ابن الفرات سحنون (ت160) فهذبها وبوبها وذيل أبوابها بالحديث والأثر ثم عرضها على ابن القاسم (ت 191) فاصلح منها وأسقط، فصارت كتب سحنون " أصل المذهب المرجح روايتها واياها اختصر مختصروهم وشرح شارحوهم وبها مناظراتهم ومذاكراتهم".(2)

وعلى الرغم من هذا المثال فان المالكيين اللاحقيين رفضوا موائمة نصوصهم مع متطلبات الحركة المرحلية فهذا المنذر بن سعيد البلوطي القرطبي (ت 273) يعيب على المالكيين بعض آرائهم فيقول :

عذيري من قوم يقولون كلمـــــا....طلبت دليلا:هكذا قال مالك

فإن عدت قالوا:هكذا قال أشهب...وقد كان لا يخفى عليه السالك

فإن زدت قالوا:سحنون مثلـــــه....ومن لم يقل ما قاله فهو آفك

فإن قلت :قال الله ضجوا و أكثروا...و قالوا جميعا أنت قرن مماحك

و إن قلت قال الرسول فقولهــــم ......أءت مالكا في ترك ذاك المسالك .

مع ذلك فقد كانت المقاربة والموازنة والمقارنة التي ابتدئها ابن الفرات أساس ميلاد المدونة مرجع وثائق المذهب المالكي ثاني المذاهب الفقهية تأسيسا من الناحية التاريخية.

أما الشافعي (ت 204) فيقول عنه الربيع بن سليمان (ت 174) سمعت الشافعي يقول "حملت عن محمد وقر بعير كتبا" وربما أشار لذلك الماوردي الشافعي (ت 364) حين نقل مسألة عن كتاب الأم فسماه كتاب الأم على مسائل محمد بن الحسن.(3)

أما الامام أحمد (ت 240) مؤسس المذهب الفقهي الرابع وعالم الحديث، فقد تشدد في موقفه من أهل الرأي، ومع ذلك أسس فقهه على مسائل ابن الحسن، فهذا ابراهيم بن اسحاق يقول " قلت للامام أحمد من أين لك هذه المسائل الدقاق ؟ قال : من كتب محمد بن الحسن".(4)

تشير هذه الفصول التاريخية لفضل المقارنة الفقهية التي أثرتها عقول الفقهاء، واعتمدت على المرويات في التأصيل والاسناد، فلئن كان محمد بن الحسن امتدادا لمدرسة الكوفة برحابة صدره وتعقله حتى قال عنه الشافعي "مارأيت أعقل من محمد بن الحسن" فان نشوءها يعد مثار نقاش لاستكشاف المدى الذي تفاعلت معه هذه المدرسة بين أصول الشريعة وأعراف الزمان الذي نشأت فيه كبيئة مفتوحة لمختلف التأثيرات الاقليمية والساسانية والرومانية ؟ سؤال للقارئ.

مع اتساع رقعة هذه النماذج فزع المحدثون الرواة من انجفال الفقهاء أهل الرأي في تشقيق المسائل وهابوه أن يجتاح أصول الشريعة وسنن النبوة فهذا أبوبكر الأعين يقول : سمعت أحمد بن حنبل يقول : "لا تكتب عن أحد منهم" يعني أصحاب أبي حنيفة، بهذه القطيعة الصارمة حاول الامام أحمد بدء حياته الفقهية بمواجهة أهل الرأي فلما أدرك تكاملهما قال مقولته الشهيرة : "مازلنا نلعن أهل الرأي ويلعنونا حتى جاء الشافعي فمزج بيننا".(5)

ربما كانت كثافة النماذج مغنية عن إعادة البرهان على مركزية المقارنة والافادة من الثقافة الحقوقية في المحيط العام وفائدتها في اثراء الفقه، والقصة معبرة في فرضية استيعاب أوعية الفقه تمهيدا لاستنباط أحكام الشريعة وتنزيلها منازلها سواء مما ورد النص به قطعا أو ظنا، أو كان مما تركه النص عمدا من غير نسيان ليكون فسحة للبشرية تتفيأ وتترقى فيه من أطايب الرأي، أكانت من قريحة ابن الحسن بفطنته أم كانت ثمرة لمختلف العلوم والمناهج الانسانية لاستظهار أصلح المصالح وأفسد المفاسد.

فهذا ابن تيمية الحراني يقول في هذا المعنى : "قد تبين بهذا أن كل علم عقلي أمر الشرع به أو دلّ عليه فهو شرعي إما باعتبار الأمر أو الدلالة أو هما معا".(6)

لقد بادر الفقهاء المسلمون إلى المقارنة منذ فجر تعرفهم على المدارس الفقهية والحقوقية، لكن من لحق بهم نكص عن نهج الرعيل الأول فرفض ــ ولايزال ــ الافادة من ثروة الأمم الحقوقية، ومتطلبات الزمن وتراكم المعارف، حتى بتنا نتذيل أعقاب الأمم في نهجنا الحقوقي المكتوب أو المطبق، على الرغم من بعض النماذج المضيئة التي نجدها في المجلة العثمانية والتراث الجليل الذي أبقاه بعض الفقهاء المصريين كأحمد ابراهيم بك (ت1360) .. وغيره (7).

ــ القاضي عياض اليحصبي ، ترتيب المدارك وتقريب المسالك، (ج 3 / ص:292)

ــ المصدر نفسه.

ــ أبو الحسن الماوردي، الحاوي، (ج 18 / ص:452)

ــ شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، (ج9 / ص:136)

ــ القاضي عياض، السابق

ــ تقي الدين ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (ج 19 / ص:228)

أصول الفقه وتاريخ التشريع الاسلامي، ابراهيم بك (ص:30)