حضرتُ نهاية الأسبوع قبل الأخير ندوة نظمها المركز الموريتاني للدراسات الاستراتجية CMES وهو أحد نوادر مراكز الدراسات الوطنية التي تَحُز في مفصل "الشواغل و المُستعجلات الوطنية" الكبري كما يتناغم إلي حد كبير تسييرُه و تنظيمُه للندوات و اللقاءات العلمية شكلا و مضمونا و ضبطا و توثيقا مع تقاليد و معايير الجودة و الإتقان المتعارف عليهما دوليا في هذا المجال.
و كان موضوع الندوة أَخًاذًا، جَذًابًا و مُحرٍضًا للاهتمام والفُضُولِ العلمي:"بناء الإنسان الموريتاني في القرن الواحد و العشرين". و قد أَطر الندوة و أدارها و أنعشها و شارك فيها و حضرها عدد غير قليل من صفوة نخبة البلد بالمَحْضَرِ و المَهْجَرِ تعلما و تعليما، ممارسة و تطبيقا، سِيرة و خِبرة و إشعاعا علميا و مهنيا داخليا و خارجيا...
و قد مر الوقت سريعا خلال ذلك "اليوم العلمي" حيث ظلت أذهان الجميع واردة كما كانت أعينهم مُعلقة بشفاه المُحاضرين و المُعقبين و المُستفسرين علي غير عادة الندوات و الملتقيات التي ينقسم حضورها غالبا بين ثُلة قليلة من المتابعين و جمع غير قليل يتوزع هو الآخر بين الحاضرين من أجل عدم تفويت فرص الظهور في الصور التلفزية و النائمين و المُتثائبين و المُنشغلين بالهواتف و الأجهزة الذكية و الغارقين في الأحاديث الجانبية و المنتظرين علي أحر من الجمر لدورهم في الكلام و لو كان قصيا عن الموضوع و المُدمنين علي الدخول و الخروج من القاعات أثناء العروض العلمية و المنتبذين مكانا خارج القاعة لتبادل "الطوارئ" و "الأخبار"...
لكن ما استحوذ علي كامل تأملي و انتباهي خلال هذا اليوم العلمي بامتياز هو تواتر معظم الحضور تقريبا علي منطوق و مضمون كلمتين ثقيلتين علي الضمير وَاخِزَتَيْن له عَاضتَيْن من سويداء القلب مُثَبِطَتَيْن لعزائم الكثير من الناس و مُوقِظتين و مُوقِدتين في نفس الوقت للهِمَمِ الثاقبة و العالية، و تُلَخِص الكلمتان العناوين الكبري لأزمة المجتمع الموريتاني الأخلاقية و الاقتصادية.أولاهما أن النخب الموريتانية العَالِمَةَ خَنُوعٌ خَضُوعٌ تدور مع مراكز القوة حيث دارت!! و ثانيهما أن موريتانيا بلد غني و شعب فقير!!.
فبخصوص خُنوع و خُضوع النخب الوطنية العالمة و دورانها مع عقارب ساعة مراكز القوي فلا يخطئ مُغَفلٌ أو مُسْتَغْفِلٌ مظاهر التزلف و النفاق السياسي و الإداري و طغيان "البِطانة المُضْحِكَة" لأي ذي قوة و جاه سياسي أو إداري أو مالي أو اجتماعي،...علي المشهد السياسي و الاجتماعي و الإعلامي، تلك البطانة التي لا تنصح صاحب المركز أيا كان إلا بما يطيب له و "يُضحكه" و تَسْتُرُ و تُواري ما قد يُكدر صفوه حتي إذا استفحل الأمر و استعصي علي العلاج "تبرأ الذين اتًبَعُوا من الذين اتُبِعُوا" و تذكر الأولون أن "المستشارين لا يدفعون الثمن"les conseillers ne sont pas les payeurs.
و تتجلي أيضا مظاهر خضوع وخنوع النخب الوطنية العالمة في العجز عن أخذ زمام المبادرة في تغيير العقليات السلبية و المعيقة للمجتمع الموريتاني و أوكدها محاربة الرواسب الذهنية و الاجتماعية للاسترقاق المُجمع تاريخا و فقها و قانونا علي حرمة و عدم شرعية ما كان موجودا منه أصلا في هذه البلاد و المُتفق اليوم اتفاقا مغلقا علي أن محاربة مخلفاته تكاد تكون فرض عين علي كل موريتاني مُتَمَتِعٍ بقواه العقلية.
و مع ذلك تعجز النخب العالمة من علماء و مفكرين و مثقفين و مناضلين عن تجاوز سقف الإنكار بالقلب إلي الإنكار باللسان و العمل و ما ذاك إلا محاباة و خوفا من مواجهة مراكز القوي الرجعية و التقليدية.
أما فيما يتعلق بمسألة " غني البلد و فقر الشعب" و أن الخلل في عجز التدبير و سوء التسيير و أنه خلل يكاد يكون خَلْقِيًا واكب نشأة اقتصاد الدولة الحديثة فتلك كلمة كلما سمعتها رَدَسَنِي قلبي و وقف شعر رأسي لهول المفسدة متسائلا كيف لثلة قليلة من المسيرين أن تُفرط في حاضرنا و مستقبلنا و تبدد ثروات بلد غني بسمكه و نفطه و غازه وحديده و ذهبه و نحاسه و معادنه الأخري و مقدراته الزراعية و ثروته الحيوانية،... تاركة الشعب يتخبط في درك المؤشرات الإقليمية و الدولية للبطالة و الأمية و الفقر و التغطية الصحية و نوعية التعليم و غير ذلك من مؤشرات التنمية البشرية؟!
و أعترف انه كثيرا ما طافني طائف ذهني بأن غني البلد مسألة فيها قدر و لو يسير من المبالغة في حين أن فقر الشعب لا يماري فيه إلا مكابر معلوم المكابرة و ربما كان أدق أن نقول " بلد غير فقير و شعب فقير" ذلك أن البلدان الغنية بالموارد الطبيعية ظلت شعوبها غنية مهما أفسد المفسدون و الشواهد علي ذلك بادية للعُمْيَان أحري العِيان.
و الحق أن الكلمتين السابقتين الثقيلتين علي الضمير العاضتين من سويداء القلب جددتا اعتقادي بأن هذا البلد يحتاج ربما أكثر من أي وقت مضي إلي "يقظة نخبوية" تُحقق مصالحة عاجلة و صادقة بين النخب العلمية و القضايا الوطنية الكبري ابتغاء معالجة أمهات القضايا الوطنية بعيدا عن المناكفات و التجاذبات "السياسوية". ذلك أن قناعتي راسخة بأن حال هذا البلد لن يتغبر- و لسوف يتغير- اجتماعيا و اقتصاديا و سياسيا إلا بأيدي نخب علمية وطنية واعية لحجم المخاطر الاجتماعية التي تتربص بنا "لحظات" التراجع الاقتصادي و الاستقطاب السياسي و الاحتقان الاجتماعي،... فهل نحن منتبهون؟!