«شجرة البؤس»؟!

سبت, 2015-09-19 10:20
آمال موسى

إننا نستحضر هذا العنوان على سبيل الاستدعاء والإحالة لا أكثر ولا أقل.
إنه عنوان إحدى روايات عميد الأدب العربي طه حسين.. رواية تحاول الإحاطة بمعنى البؤس وكيفية تمدّده في مسارب حياة بعض الأفراد.
ولعل قراء رواية «شجرة البؤس» يتذكرون جيدًا بطلة الرواية؛ تلك الفتاة البائسة في جمالها وعلاقاتها ونصيبها، وكيف أنها أنجبت بنات ورثن عنها البؤس في معانيه المتعددة.
في الحقيقة، لا علاقة في الظاهر بين هذه الرواية وموضوع مقالنا، إلا من ناحية مركزية مفهوم البؤس، حيث إن الشيء بالشيء يُذكر.
لقد تناقلت صحف ومواقع إلكترونية كثيرة نتائج بحث كمّي، قام به خبير اقتصادي، يُدعى آرثر أوكون، خلصت فيه هذه النتائج إلى أن ثلاث دول عربية هي سوريا واليمن وتونس، تعد ضمن الدول الأكثر تعاسة.
واشتغل الباحث الاقتصادي السالف الذكر على مؤشر «البؤس»، مستندا في ذلك إلى متغيرين اثنين هما: متغير البطالة، ومتغير التضخم؛ أي إن عملية قياس مدى بؤس الدولة، تتحدد من خلال معدلات هذين المتغيرين المهمين.
وكما نلاحظ، فإن الخبير آرثر أوكون كان بليغًا ومكثفًا في متغيراته؛ فهو لم يكثر منها، واكتفى بمقياسين اثنين يمثلان في حدّ ذاتهما خلاصة البؤس، وفي أقل الحالات أهم عناوينه البارزة، التي تنقلنا بدورها إلى مرادف لها في المعنى والمدلول: «التعاسة».
طبعًا تعرف قواميس اللغة «البؤس» بأنه الفقر والوضع المزري والمشقة. وهو بالضبط ما تعنيه نتائج هذه الدراسة الاقتصادية.
ولكن مع ذلك، لا تبدو لنا هذه النتائج صادمة في حدّ ذاتها. ولو أن الباحث قد توسع في ضبط قائمة مطولة من مقاييس البؤس الكثيرة وشملت الثقافي منها والاجتماعي، لوجد العالم العربي كلّه نفسه في قائمة الدول البائسة والتعيسة؛ ذلك أنه لا يفوتنا أننا أمام نتائج تركز أولاً وأخيرًا على البؤس الاقتصادي، الذي رغم أهميته القصوى وتأثيراته القوية على بقية أبعاد الفعل الاجتماعي، فإنه ليس أكثر خطورة وانعكاسات من البؤس الثقافي والقيمي الاجتماعي، الذي ما فتئ يزداد ويتجذر في سياقات حياتنا اليومية وعلاقاتنا الاجتماعية في مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية سواء الأولية منها (الأسرة والمدرسة) أو الثانوية المتمثلة في ما يطلق عليه علاقات الجيل ووسائل الإعلام والأحزاب..
ويكفي أن نعاين الواقع العربي اليوم بعدسة ناقدة نزيهة، تقارب مجتمعاتنا مقاربة شافية ضافية، حتى نقف بالدليل والحجة القاطعين على توغل مظاهر البؤس وتوسعها لتأتي على الأخضر واليابس في مجتمعاتنا.
وليس تهميشًا للبؤس الاقتصادي إذا ما اعتبرناه من نوع البؤس ممكن التجاوز والقابل للعلاج.. ذلك أنه بمجرد تبني خطط تنموية ذات جدوى وتكون ذكية ونفعية، فإنه يمكن أن تنخفض معدلات البطالة وتستعيد العملات العربية بريقها ورنينها في سوق العملة الدولية.
ولكن المشكلة أن البؤس الثقافي والديني هو الذي أنتج البؤس الاقتصادي المتمثل في البطالة والتضخم وغير ذلك من مظاهره.
وتأكيدًا لما ذهبنا إليه، فإن وجود تونس ضمن قائمة الدول التعيسة، يمثل نقطة استغراب كبيرة خلافًا لشأني سوريا واليمن الغارقين في أتون الحروب والموت والدمار، حيث الحياة الاقتصادية شبه معطلة، وبالكاد تتحرك عجلة الاقتصاد من أجل تأمين ما يطرد أشباح الجوع والعطش.
أما تونس، فهي الدولة التي دقت ناقوس ما سمي في وقته «الربيع العربي» يوم 14 يناير (كانون الثاني) 2011 وصفق لها العالم وتغزل بثورة الياسمين. كما أنها نجحت في فرض انتخابات المجلس الوطني التأسيسي الذي صاغ الدستور الجديد للبلاد، وخاضت مغامرة الديمقراطية بتقدير إيجابي في انتخاباتها التشريعية والرئاسية الأخيرة.. دون أن نتجاهل حقيقة أنها أكثر دول الثورات العربية استقرارًا مقارنة بغيرها، حيث تبدو فيها دواعي الفتنة ضعيفة وذلك لاعتبارات سوسيولوجية، تقدمها بوصفها دولةً متجانسة مذهبيًا ودينيًا وذات تجربة عريقة في الإصلاح والتحديث.
ولكن الجواب القادر على امتصاص أكبر قدر ممكن من الاستغراب بسيط جدًا: إنه الإرهاب المنتج للبؤس؛ إذ تدهورت أوضاع تونس الاقتصادية تحديدًا بسبب الإرهاب الذي ضرب قطاع السياحة، الذي يقوم عليه الاقتصاد التونسي ومنه يجني مدخراته من العملة الصعبة. كما أن الإرهاب هو الذي جفف ينابيع الاستثمار وأحبط عزائم المستثمرين التونسيين والأجانب على حد السواء.
وفي الحقيقة، فإن حالة البؤس، التي نعيشها عربيًا وعالميًا اليوم، هي، في أحد أهم أسبابها، نتاج التنظيمات الإرهابية التكفيرية، التي منذ أن انطلقت في رحلة الموت والخراب مع تنظيم القاعدة ومنذ الكارثة الكبرى، أي هجوم 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وكل العالم من بؤس إلى آخر، ومن تعاسة إلى أخرى. كما أن للعولمة نصيبًا في حالة البؤس العالمية اليوم.
بيت القصيد: كلنا اليوم، دولاً فقيرة وغنية ومتخلفة ومتقدمة، نعيش في عالم بلغ من البؤس عتيًا. ولكن العين المجردة لا ترى منه غير المادي، في حين أن البؤس الكارثي هو ذلك المعشش في العقول المظلمة.. وما أكثرها.