"ينطوي مفهوم هيبة الدولة على عنصرين: أولهما الرهبة والخشية، اي ما تبثه الدولة في نفوس الناس من شعور بالوجل والتهيب يمنعهم من تحديها أو انتهاك نظامها، وهو ما يثّبته اقتناعهم بأنهم إن فعلوا سيلقون عقابا رادعا. وقد تسعفهم ذاكرتهم بامثلة من هذا العقاب في كل مرة تم التعدي على حرمة الدولة. العنصر الثاني هو الاحترام، اي الشعور بالتقدير لأفعال الدولة، وهو شعور ينبعث من التزام هذه الأفعال بقيم وقواعد مطردة، ومن خدمة هدف عام يتعدى مصالح القائمين عليها. فالاحترام مرتبط بالقانون. العقاب ذاته حين يكون منضبطا بقانون وساريا على جميع الحالات المشابهة يبعث الاحترام في النفس. اللا احترام بالمقابل مرتبط بالاستثناءات والمزاجية والاعتباط"
على امتداد الطرق الوطنية الأربعة: نواكشوك/روصو ـ طريق الأمل ـ نواكشوط/أطار ـ نواكشوط/نوايبو تنتشر كالنباتات الفطريات الضارة (شم الذيب أو عيش الغراب) كنزل استراحة للمسافرين الوهميين و قليل المنتجعين الباحثين عن ألبان الإبل و البقر المحلوبة للتو، في فوضوية لا توصف و من دون أن يكون لهذه النزل بريق أو مرتادون. و هي النزل التي لا تتمتع بأشكال هندسية تحاكي أيا من تلك المعروفة و المتبعة و لا تحترم تناسبية أو قواما يمكن السكوت على أي منهما، بل هي أشكال خشنة لا تستقيم على أي عرف هندسي و لم تستطع حتى أن تغطي عجزها عن قدرة على تقديم أية خدمة لراحة المرتاد إن لم تكن هذه الخدمة غائبة أصلا.
و هي النزل أيضا التي تعري بشكل فج و مفضوح أصحابها الذين، و إن أبانوا عن سذاجة بادية و قلة اكتراث بما ينطوي عليه إن عاجلا أم آجلا هذا الاحتيال المتعمد و السطو الممنهج، هم المنتمون في غالبيتهم العظمى إلى الدوائر الكبرى للنفوذ السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي.
و إنه لا يخفى مطلقا على أي متابع متبصر و محلل متمكن مثل هذا التوكل الذي مكن لهؤلاء من السطو، الذي لم يكلفهم جهدا و آمنهم من خشية الردع و المتابعة القانونية، على الأراضي العمومية المحاذية لهذه الشرايين المنوط بها ربط أوصال البلد المترامية التي من المتوقع أن تؤمن أدوارا اقتصادية مطلوبة قادمة، و قد استخدموا في ذلك تمويها و عمدا أساليب "الكزرة" المقنعة و إن بدون جهود إدارية كذلك حتى أثبتوا ملكيتهم لتلك الأراضي العمومية محولين إياها إلى ملكيات فردية و محميات خاصة.
و بقدر ما خلقت هذا السطو و الاستحواذ على عقار الدولة في كل الاتجاهات حالة عارمة من الفوضى المحققة التي وصلت حد مشاهدة انتشار البنايات المترامية في خرق سافر للمعايير الهندسية و بمواد غير مواتية و الأعمدة المشينة لأي وجه تنظيمي أو جمالي و أشكال هيأت لأن تتحول الأرض إلى مرمى كبير لأنواع نفايات مواد البناء غطت على الهامش الأمني الإلزامي الواقع على حافة هذه الطرق الوطنية؛ بقدر ما يشكل هذا السطو خرقا سافرا تترتب عليه عقوبات شديدة و غرامات صارمة و سجن لأنها تجاوز خطير للقانون و تعدي على صلاحيات و أهلية و كفاية الدولة.
و إنه لا بد أن يتم بشكل مستمر و عملي تقصي و متابعة فعالين على امتداد هذه الطرق الوطنية حتى تتثبت الدولة من وجود هذه الوضعية الجائرة و المفروضة و كأنها أمر طبيعي، و حتى تتبين ضرورة رفضها أيضا علما بأهمية هذه المساحات التي تحف الطرق الوطنية الكبرى التي قد يبين عنها تسيير و ترشيد فيما يتعلق بالسيطرة على ظاهرة تمدد المدن السريع.
و إنها الوضعية المتسمة بالفوضى و غياب الدولة التي تدعو السلطات بشكل استعجالي إلى الأخذ بزمام المبادرة و الإمساك بهذه المساحات المغتصبة، و فرض المحتالين عليها المتقمصين لذلك ثوب الـ"الكزارة" العصريين على إخلاء مستعمراتهم غير اللائقة و التي لا تعدو كونها تكريسا لعقلية البداوة الذي يترجمه تعلق سقيم بروائح فضلات نوقهم و أبقارهم و أغنامهم التي وضعت حديثا و هي محتجزة داخل مساحات بواديهم الاصطناعية.
و يتحتم على الدولة أن تقيم أهمية تسوية هذا الوضع القائم ضمن سياستها العامة و في مخطط التنمية الشاملة المستقبلية. و لا بد أن تبدأ العمل على دمج هذه الأراضي العمومية المسترجعة في مخطط ترقية حديثة من أجل حركة حضيرية محكمة و مقننة و موزونة
أكثر من ذلك فإنه تجب حتما متابعة هؤلاء المغتصبين رجالا و نساء و شبابا و وجهاء و موظفين كبار و ضباط سامين و رجال أعمال و حاشية و أتباع أهل دوائر النفوذ و الجاه و القرار.
و إنه بهذا وجده فقط سيتوقف قطعا و نهائيا هذا التجاوز الخطير على عقار الدولة و هيبتها وصلاحياتها تحت دثار عادة موروثة عن أزمنة "السيبة" الغابرة و التي ما زالت قائمة على أشدها لأجل أن تبقى نابضة أسباب بقائها.