كانت السعادة وستظلّ تعريفاً خلافيّاً ومسألة إشكاليّة ، بدءاً بالفلاسفة القدامى الذين انقسموا إلى قسمين رئيسيين الأوّل ما تبنّاه نيتشة من أنّ السعادة منبعها القوّة ،القوّة بما هي نتاج للأشياء الماديّة الملموسة كالثروة أو السلطة ، وهو الذي رأى أنّ بوسع الإنسان القويّ أن يتألّه ما بالك أن يحصل على السعادة ، خلافا له جاءت بعض المقاربات الأخرى التى حصرت مفهوم السعادة في المسألة الفكريّة والروحيّة وهي رؤية أقرب إلى عالم المُثل على غرار أبيقوروأفلاطون وقد حصروا السعادة في كلّ ما ينتج عن لذّة الروح وكلّ ما يؤدّي إليها ومن هنا يمكن أن نضع الفنّ على رأس قائمة مسبّبات السعادة .
كيف يرقى العمل الفنيّ لمهمّةِ إسعاد الناس ؟ كيف يحملُ على عاتقه مسؤوليّة إبهاجهم ، سوف أزغم إنطلاقاً من هنا أنّ هذا هو دور الفنّ الأساسيّ ، خلق المتعة وإستحضار اللحظات الأشدّ حميميّة كالطفولة مثلاً لدى الكائن البشريّ .. وهو تماماً ما تولّده عندى مسرحيّة " ريّا وسكينة " ، لعلّه ليس مسرحاً عظيماً لا يجترح ملاحم إنسانيّة أو تاريخيّة أو حضاريّة ، لا يُثير أسئلة وجوديّة ، ليس مثقلاً بأيّ فلسفة قيميّة ، لا إيحاءات ، لا رموز ، لا يجترّ أحداث حرب ولا يقف على مسرب لنقد لأيّ إيديولوجيا ، لكنّه قنبلة موقوتة من فنّ وأيضاً ضحك ..
عام 1982 عرضت لأوّل مرّة مسرحيّة " ريا وسكينة "عن قصّة أشهر سفاحتين في تاريخ مصر والإسكندريّة في مطلع القرن العشرين الشقيقتان : ريّا وسكينة النازحتان من صعيد مصر إلى مدينة الإسكندريّة حيث كانت محطّتهما الأخيرة ،هناك كوّنتا عصابة لخطف النساء وسلبهنّ ومن ثمّ قتلهنّ ، قبض على الشقيقتين عام 1921 واعدمتا في نفس العام ، هزّت القضيّة كلّ مصر آنذاك إذ كانت من أبشع ما مرّ على المجتمع المصريّ من جرائم ، وأغربها فأيّ دافع قويّ وراء تحجّر إحساس امرأتين وموت إنسانيّتهما ومن أين أتيتا بكلّ تلك الجسارة في مواجهة الفقر ؟
إنّه الفقر المدقع ، الفقر حتى العظم ، وأرغب أن أقول الفقر حدّ الجوع ، وما أكثر المصائب التى يقف خلفها ذات الشبح : الجوع ! تعلّمنا إذن أن نعذر " ريّا وسكينة " ولن أبالغ لو قلت أنّ من ضمن أعمال أخرى كثيرة جدّا عالجت ذات القصّة ، استطاعت وحدها مسرحيّة المؤلّف بهجت قمر والمخرج حسين كمال ، معالجة قصّة قاسية ،حزينة وصادمة بأسلوب بسيط ،مرن يُسرّب إليك المعنى دون أن تشعر بذلك ، المعنى حسب رأيي كان دوماً المقدرة على إيجاد الأعذار لأسوأ الفئات على الأرض ومن بينها حتى القتلة.
لماذا " ريا وسكينة " رغم قيمتها الفنيّة العاديّة ؟ لأنّها مسرحيّة خلدت مع الوقت ، وأيقونة من زمن الفنّ الجميل ، لأنّها أدّت وتؤدي دور الفنّ الأساسيّ ألا وهو التعويض ،وتخفيف وطأة الواقع وإبعاده عن سلطة اليوميّ المُجترّ ، ليس تغييبا لكنّه إسعاد .. قد لا يدوم ذلك سوى ساعات تنتهي بإنتهاء العمل لكنّنا نبقى ممسوسين بما يُلقيه الفنّ من ظلال السكينة والراحة والإمتلاء والمتعة والصفاء والمصالحة مع الذات والعالم ، الفنّ الحقيقيّ هو الذي يُعيدك في كلّ مرّة خفيفاً ، ناصعاً ، مسالماً كأنّك ولدت للتو ، الفنّ طريق سالكة نحو السعادة ولئن إختلفت رؤانا لمفهومها ،ولئن إختلفنا حول ضرورة ديمومتها من زوالها ، ولئن قيل أنّ الفنّ خالق لسعادة شكليّة بما أنّها عابرة ..
يبقى ديننا للفنّ قائماً إذ مقارنة بصناعاته الأخرى سوف يظلّ الفنّ إلى الأبد أنبل ما أنتجه الإنسان .
ارم