خيوط العلائقية بين حُمّى الوطن والحوارِ (نقاط)

أحد, 2015-10-04 15:40
الكاتب عالي ولد الدمين

1- هذه الظروف الماكرة، تُحب الحاء، تُحبها للابتداء، تحبها مضمومة ومسكورة، في تصادفٍ تلازميّ عجيب، يُبرّر نفسه بنفسه. حوار الحُمّى وحُمّى الحوار. هكذا على هذا النحو التبادلي نفهمُ سرّ هذا التصادف الماكر للظروف المأزومة.
2- حُمى نزيفيّة أشدّ من حُمى تيارت السابقة تعصفُ حالياً بساكنة انواكشوط، في شكلٍ وبائيّ ضنكيّ خطير، ووزيرُ نظام الجنرال عزيز للصحة لايستقرُّ به مكانٌ، كغيره من ذوي الأوزار الذين يتوّزعون هذه الأيّام على الجهات الأربع للترويج لمهزلة الحوار. حوار الطرشان. حوار الجانب الواحد، حوار التنازلات المُشتراة سراً، حوار التسكين والتهدئة. حوارٌ وطنيّ لاعلاقة له بعمق مُشكل الوطن لامن قريبٍ ولامن بعيد!
3- قبل أيّام، تأسفتُ لعدم قدرتي على تصديق كل مايقال عن الحوار، من جانب التأييد له. كان بودّي تصديق ماقاله سعد لوليد، مثلاً، عن الحوار، من بين ماقاله جميع المقالاتيين الخيمهلييّن الفائضين على اللّزوم. سعد تحدّث عن فضلية الحوار الدينيّة، في شرع اللّه ورسوله، وفضيلته الأخلاقيّة والسياسيّة. وكنتُ وأنا أقرأُ مقاله المُرتبك أعيشُ اكتئاباً مُبهماً، إلى أن وصلتُ لخاتمته التذيليّة بمكانِ كتابته: نيوورك، أمريكا. هناك ابتهجتُ في داخلي، وعرفتُ سرّ مقال سعْد السعيد. السعيد بالتصالح، والإصلاح من الدّاخل. لكني تساءلتُ أين قضية سجن بيرام وإبراهيم اللّذان حبسهما الجنرال الساعي للوفاق التهديئيّ من مقال الحوار السعيد هذا؟ (كفّوا عن التساؤل الخبيث المسعى!). بل إنني اليوم، عندما طالعتُ خبراً يقضي بقمع وسجن مناضلة إيراويّة، اعترضت في أمبود موكبَ أحد وزراء الجنرال المروّجين للحوار، وهي تُرّدد: لاحوار لاحوار ولحراطين في حصار. تذكرتُ أنه كان يجبُ أن أضيف لسؤالي أعلاه: أين قضيّة لحراطين الوطنيّة من مقال الحوار السعد السعيد؟ وسعد يُقدّم نفسه مناضلاً في هذه القضيّة الوطنيّة العادلة كُلياً، بل وفي إحدى حركاتها الأكثر راديكالية: إيرا. وفي سفر اليقنيّات المبدئيّة دائماً للمثقف الراديكاليّ، الذي يُقدّم سعد نفسه على أنه هو: لاتصالح ولاحوار مع الجلاّد، القامع، الديكتاتور، الفاسد. وهذه صفات قليلة من بين صفات الجنرال عزيز السيئة، يجبُ أنْ نُذّكربها السعد السعيد بمهزلة الحوار الحاليّة المرتقبة.
4- الحُمّى نصيبُ الشعب المنسيّ، وهي حقه المُدرج في قائمة عذابه الطويلة، التي علقتها السلطوية العسكرية عندنا على جدار أولوياتها العمليّة المُلحة. الحُمىّ هي شقاء الشعب العادل التقسيم بالكامل. هي حظّه الحزين. هنا سنعكسُ الشعار الثوريّ المعروف في هذا السياق التثويري؛ الثروة للشعب، ونقولُ: الحمّى للشعب. أصحابُ النظام لاتصيبهم الحمّى. هي ليست لهم، هي للشعب. ولكن بالمقابل لهم الثروة ليتنعمّوا، ويذهبوا إلى الخارج، للسياحة والاستشفاء الراقيان. لذلك أيضاً لاعجب إن تمَّ تجاهل الشعب في معاناته الكبري، حظه الحزين، قدره الشقي: هذه الحُمّى وأضرابها. فلامستشفيات نافعة، ولا صحة حقيقيّة. السبب هنا هو أن المُعاني الشاكي: الشعبّ المركول على مؤخرته، من قبل السلطة وأزملامها الفاسدين. لذلك فهو لايستحقُ إلا العذاب والإهمال فيه. 
5- ظرفُ الحمى هذا ينزعُ أيِّ شرعيةٍ أخلاقيّةٍ سياسية دينيّة زائفة عن مهزلة الحوار الموعودة. هذه حقيقة أكيدة. كيف إذاً يصحُّ حواُر أهل الهرمِ، من سياسيين حزبيين ومسؤولين سلطوييّن، في حين أنَّ أهل القاعدة، من الشعب-المواطنين، قابعون في جحيمِ مُعاناتهم المتعددة الأشكال والأوجه؟ في ظلِّ هذه الحُمّى الحاليّة المتزامنة مع قضية الحوار وأيّامه التشاورية؟ بل إنه كيف يصحُ وجودُ حوارٍ وطنيّ بمعزلٍ عن أهل القاعدة-الشعب، ولايوجدُ فيه إلا أهل الهرم الأعلى، من أهل السلطة ؟ إنَّ هذا في حدِّ ذاته تكريسٌ لاواعٍ، ومُضمر في عمقه، للسلطويّة التراتبيّة، التي تُنافي الحوار، كخيار ديموقراطيّ جيّدد، تمَّ مسخه من طرف العسكر هنا وأعوانهم من الشيوخ القبلييّن والدينييّن والمثقفين ورجال الأعمال. والحقيقة أن الحمّى للشعب في حين أن الحوار لهم هم. كفاكم مسخاً ونشازاً ياحفاة المعنى!؟
6- العقل السياسيّ الموريتانيّ بائس ومُعوّق. هو لايُعالج المشاكل إلأ حين تحدُث أرضياً. إنه مأزومٌ بالأزمة. اعتقدُ أنَّ هذا أفضل تعبير لوصفه. هو دائماً منهمِكٌ في تدبير بروتكولاته المظهريّة، ولايفيقُ إلا بعد أن تكونَ المشاكل والمصائب جميعاً قد وقعتْ. أقولُ هذا وأنا أرى بعض المثقفين الخيمهليين يقولُ أن الظروف السيئة تُبرّر الحوار إلى حدٍ بعيد. وهم يرون إلى الحوار بوصفه حلاًّ. يالوهمهم؟ ليكونَ هنالكَ حواراً وطنياً صادقاً، ضامنٌ لنتيجةٍ بنّاءة، فلابد من تجهييزالأرضيّة بالكامل له. أيْ لابدَّ من القضاء على التسعكر السلطويّ، الفساد بكافة مظاهره. لابدَّ من توفير العدالة، التعليم، الصحة، السكن، الغذاء، الأمن، تساوي الفرص..الخ. وكل هذا الآنٌ غائبٌ ومنعدم، فما هو وجهُ الحوار إذاً؟ إنَّ كل ذاك يأتي قبل الحوار لابعده. خاصةً إنْ كان الحوار حواراً، ذا طبيعة تصالحيّة تنازليّة كالحوار المرتقب. إنَّ مايتطلبه الواقع الموريتانيّ الحاليّ، في عمق مشكلته الراهنة، ليس الحوار وبدائله المتكررة الفاشلة، ولكن التغيير الجذريّ، والتغيير الجذري فقط. الحوار تسكينٌ لحظيّ. التغيير علاج حتميّ.

نقلا عن مدونة الكاتب