نصيحة الصحافة للسياسة: عليك بقراءة الشعر!

جمعة, 2015-10-09 10:25
مالك التريكي

قبل أيام نصح الصحافي أندرو مار الساسة والبرلمانيين في بريطانيا بأن يقلّلوا من مشاهدة التلفزيون ويكثروا من قراءة الشعر! 
ولا شك أن أول ما يتبادر إلى الذهن هو أن النصيحة تتعلق بوجوب التحرر من سطحية المشهدية اليومية وفقرها اللغوي الفاضح، والالتزام الواعي بدل ذلك بشروط العمق الفكري وبأصول البيان التبليغي. ولكن ليس ذلك بالضبط ما يقصده هذا الصحافي اللامع الذي تولى رئاسة تحرير جريدة «الاندبندنت» في التسعينيات والذي يزاوج منذ زمن بعيد بين تقديم البرامج السياسية والبرامج الفكرية في الإذاعة والتلفزيون، والذي قام الخميس بتقديم الفقرات والحوارات والقراءات التي شارك بها راديو بي بي سي 4 على مدى 12 ساعة في إحياء «اليوم الوطني للشعر». بل إن ما يقصده أندرو مار هو أن معظم الساسة من الجيل الجديد يفتقرون إلى الخلفية الثقافية والتجربة الحياتية.
ذلك أن الخبرة بالشعر ترتبط، في تصور عامة مثقفي اللغة الانكليزية، بالخبرة بالحياة. كلما تشعب الإنسان في تجارب الوجود كلما مسّت حاجته للشعر. وكلما تقدم في قراءة الشعر كلما تبددت ظلمات الوجود وتجلت معانيه.
فقراءة الشعر هي، من هذا المنظور، مسعى لفهم الذات في علاقتها بالعالم. هي استنارة الكائن الحي بخيوط نور موضعية أو استضاءته بشمس دائمة قد لا تكشف كل الخبايا ولكنها تشرق على كامل الوجدان.
ونظرا لهذا الاتصال الوثيق بين الخبرة بالشعر والخبرة بالحياة، فإن ما يعيبه أندرو مار على معظم الساسة من الجيل الجديد أنهم يدخلون المعترك السياسي دون أن يكونوا قرؤوا قصيدة أو اكتسبوا تجربة مهنية. لقد أصبحت الحياة السياسية المعاصرة «ضامرة ذابلة» وتحولت إلى «مجرد حرفة»، حيث أن معظم أعضاء مجلس العموم يتخرجون من الجامعة ثم يلتحقون مباشرة بالحزب. لا يعملون فيه فحسب، بل ويقيمون!
ويقول أندرو مار إنه لما بدأ العمل في الصحافة عام 1983 كان الساسة الذين يقابلهم ويحاورهم رجالات من طراز دنيس هيلي وزير المالية السابق الملقب بـ»أفضل رئيس حكومة حرمت منه بريطانيا» (والذي توفي قبل أيام في سن الثامنة والتسعين)، ومايكل فوت زعيم حزب العمال التاريخي، وإينوك باول السياسي المحافظ والشاعر والأكاديمي المتخصص في الكلاسيكيات الإغريقية واللاتينية. «كان هؤلاء يعرفون أكثر منك، أيا كان الموضوع، وكان الحديث معهم يتشعب ويمضي في اتجاهات لا يمكن توقعها. لقد كان روي جنكنز أكثر اطلاعا ومعرفة من أي صحافي يحاوره». 
وروي جنكنز هو الكاتب والسياسي الذي كان نائب زعيم حزب العمال مطلع السبعينيات ووزيرا للداخلية في منتصفها، ثم أنشأ مطلع الثمانينيات، مع مجموعة من الساسة والمثقفين العماليين، الحزب الديمقراطي الاشتراكي الذي انصهر بعد ذلك مع الحزب الليبرالي، وبذلك تشكّل الحزب الديمقراطي الليبرالي الذي صار الحزب الثالث في بريطانيا (حتى هزيمته النكراء منتصف هذا العام). وتولى جنكنز رئاسة المفوضية الأوروبية أواخر السبعينيات، كما كان له شرف عمادة جامعة أوكسفورد طيلة عقد ونصف. وأذكر أن مجلة «سبكتاتور» السياسية الأسبوعية المحافظة كتبت أواخر التسعينيات مقالا أشارت فيه إلى أن جنكنز كان يسخر من توني بلير، رئيس الوزراء آنذاك، لأنه «من الوزن الخفيف فكريا» وكان يرى أن صديق بلير اللدود غوردون براون أوسع منه ثقافة لأنه عارف بالفكر السياسي والاقتصادي وأخلص في البحث والاجتهاد. 
وإذا كانت نصيحة أندرو مار للساسة لا تخلو من طرافة، فإن النصيحة التي تبعث على الدهشة فعلا هي تلك التي وجهها المذيع الشهير جريمي باكسمان (الذي ظل يقدم برنامج «نيوزنايت» الإخباري طيلة ربع قرن) إلى الصحافيين الشباب. فقد اشتريت أخيرا مجموعة المختارات الشعرية السنوية التي تصدرها مؤسسة «فورورد» المتخصصة في تشجيع الشعراء الناشئين ولم أفاجأ بأن يكون التصدير لمختارات هذا العام بقلم جريمي باكسمان ولكن ما فاجأني، بل أدهشني، هو قوله إن الثقافة الشعرية قد اندثرت حتى أن الصحافيين أنفسهم لم يعودوا يعرفون الشعر. والشاهد أن صحافيا شابا طلب من باكسمان رأيه في تقرير تلفزيوني أنجزه، فأجاب باكسمان بأن العمل معقول تلفزيونيا ومقبول لغويا ولكن الأسلوب ثقيل عديم السلاسة. ثم قال: عليك بقراءة قصيدة كل يوم! فإذا بالصحافي الشاب يستفسر: ولكن كيف لي العثور على دواوين الشعر؟!.