لم أجد صعوبة تذكر في أن اتخذ قراري بإبطال صوتي في الانتخابات البرلمانية المصرية المقرر أن يبدأ التصويت في مرحلتها الأولى غدا السبت، وهو القرار نفسه الذي كنت اتخذته حيال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وأحسب، بدون فخر أو سعادة، أن الوقائع والأحداث التي شهدتها البلاد منذئذ أثبتت صوابه.
والمعروف أن تلك الانتخابات الرئاسية كانت شهدت نسبة تاريخية من الأصوات الباطلة، حتى أنها جاءت في المركز الثاني، متفوقة على المرشح الرئاسي الوحيد الذي تنافس مع الرئيس عبد الفتاح السيسي.
أما أسباب قراري هذه المرة فتتجاوز حالة «الفتور والإحباط» التي تتصدر اغلب التحليلات المصيبة، وراء التوقعات الواسعة بمشاركة ضعيفة، إلى موقف إيجابي من الغضب والقلق والاحتجاج على سياسات الدولة وسلوكيات النظام على أكثر من صعيد. ومن المهم ملاحظة أن نسبة كبيرة من المصريين اتخذوا قرارهم مبكرا بمقاطعة الانتخابات، أو بالتعبير العامي، لكن ربما الأكثر دقة «ان يكبروا دماغهم»، وهو ما يبدو واضحا في غياب أي أجواء انتخابية حقيقية، أو حتى مجرد اهتمام بالتعرف على المرشحين المجهولين غالبا في دوائرهم او برامجهم، رغم توظيف النظام كافة ابواقه الاعلامية لحث الناس، بل دفعهم دفعا للتصويت، سعيا للحصول على صورة تمنح العملية السياسية، والبرلمان الذي ستنتجه أكبر قدر ممكن من الشرعية. ويجدر هنا التوقف عند قليل من كثير من المكونات الرئيسية لهذا المشهد الانتخابي:
اولا- بشهادة السيد ناجي الشهابي زعيم حزب الجيل، وهو سياسي قديم ومخضرم لا يمكن اتهامه بأنه من جماعة «الإخوان» أو من الداعمين لها، أو «طابور خامس» حسب القاموس الإعلامي الأمني هذه الأيام، فغن الاجهزة الامنية لعبت دورا كبيرا في «اختيار» المرشحين على القوائم، ولم يكن كافيا أن يكون الراغب في الترشح من مؤيدي النظام، بل يجب أن يحظى برضى تلك الأجهزة وثقتها أيضا (..). ولا يكاد الرجل يصدق ما لقيه وحزبه من معاملة غير مسبوقة حتى في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، رغم أنه مؤيد معروف للنظام وللرئيس السيسي. وقد ايده في هذا الكلام سياسي – صحافي آخر اكل على موائد كافة العهود التي عرفتها مصر خلال العقود الماضية، بما في ذلك عهد الإخوان قبل أن يعلن الحرب عليهم مع اقتراب ثورة الثلاثين من يونيو، إذ قال صراحة «الاعتراضات الأمنية ادت إلى استبعاد بعض الاسماء» بدون أن يوضح اسباب تلك الاعتراضات، وكأن كلامهم منزل من السماء.
وبالتالي، وحسبما قال الدكتور أحمد عبد الحفيظ نائب رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان في حديثه للعدد الاسبوعي الحالي من «القدس العربي»، «إن الحكومة لن تحتاج إلى تزوير منهجي في الانتخابات، لأنها أعدت ترتيبات مسبقة». لكن بكلمات أقل دبلوماسية، نقول إن شبهة تزييف واضحة لإرادة الأمة وقعت بالفعل من المنبع، وألقت بظلال شك عميقة حول مصداقية هذا البرلمان الجديد وشرعيته، ما يحتم على أي شخص يحترم نفسه أن يترفع عن الترشح لعضويته، وإن كان هذا لا يمنع وجود مرشحين وطنيين وصادقين في رغبتهم في أن يخدموا بلادهم في هذه المرحلة الصعبة.
ثانيا – إن هذا البرلمان الذي تحول إلى ما يشبه «فرح العمدة»، كما يقول ابناء الريف في مصر، أو المغناطيس يجذب اليه أفواجا من الفلول ورجال الأعمال سواء من الصالحين او الفاسدين الراغبين في الاختباء وراء الحصانة، وقليلا من ممثلي السلفيين الذين سيحتاجهم النظام لنفي شبهة إقصاء التيار الإسلامي، ولو على حساب الدستور الذي حظر بشكل واضح كافة الاحزاب الدينية، وأغلبية من المرشحين الانتهازيين المشتاقين للسلطة وامتيازاتها، وهم الذين كانوا «ساداتيين» في عهد السادات، و»مباركيين» في عهد مبارك، و»إخوانجية» في عهد الإخوان، وبالطبع أصبحوا «سيساوية» في عهد السيسي. اما من سيقود تلك التركـــــيبة البرلمانية المشــوهة، والمفتقدة لنواب حقيقيين قادرين على محاسبة الحكومة، ومشاركة الرئيس في صلاحياته، كما مكنهم الدستور الأخير، فهم «أقلية محظوظة» تدعى قائمة «في حب مصر»، ومعها الأعضاء الذين سيعينهم رئيس الجمهورية، حسبما يجيز له الدستور. وباستثــــناء قليل من النـــواب هنا وهناك، سواء كانوا مستقلين او منتمين إلى بعض الاحزاب مثل الوفد والمصريين الاحرار، الذين سيناضلون للقيام بدور المعارضة الوطنية، فإننا امام «انتخابات سيساوية» بامتياز، لا يمكن الا أن تنتج «مجلسا سيساويا» بدرجة او بأخرى.
ثالثا- إن الرئيس السيسي يتحمل شخصيا قدرا كبيرا من المسؤولية عن الوصول إلى هذا الوضع الضار بالدولة والنظام، عندما كرر في أكثر من مناسبة، وفي استنفار واضح لأجهزة الدولة، التحذير من «خطورة البرلمان المقبل»، و»انه يستطيع أن يقيل رئيس الجمهورية». وهذا تغول واضح على الحق الطبيعي للناخبين في اختيار من يريدون. وبالقاء نظرة متأنية على تلك التحذيرات، يتضح أن بعضها قد يكون صحيحا من الناحية التقنية، لكن ليس الواقعية. غذ أن البرلمان باغلبية ثلثي اعضائه يستطيع حقا أن يطرح الثقة في رئيس الجمهورية للتصويت، لكن حصريا من خلال استفتاء شعبي عام، أي أن الشعب هو الذي يملك سلطة إقالة الرئيس وليس البرلمان.
أما السبب الحقيقي لمخاوف النظام فهو أن يتمكن أعضاء في جماعة «الإخوان» من دخول البرلمان. وقد فهمت الأجهزة الامنية الرسالة جيدا، وقامت بمنع ترشح ليس فقط من تظنه إخوانيا، بل مؤيدا للاخوان او قريبا او صديقا لعضو في الجماعة (..). إنه السلوك نفسه الذي اعتمدته في الانتخابات البرلمانية عام 2010 باشراف مباشر من «مهندسها» أحمد عز، قبل أن يكتشف النظام انها كانت القشة التي قصمت ظهره.
الواقع أن مـــثل هذا السلوك يكشف بوضوح فداحة أن الرئيس السيسي الذي يملك مستشارين أمنيين واقتصاديين وقانونيين، لا يملك اي مستشار سياسي. وإلا لكان حذره من أنه يسمح نظريا بأن يعيد التاريخ نفسه، ولأبلغه أنه كلما زاد عدد المعارضين في البرلمان، ازداد النظام قوة، واقتربت البلاد من الاستقرار المنشود.
وعلى عكس ما قد يظن النظام، فإن مجرد تشكيل البرلمان لن يكون كافيا لتهدئة الانتقادات والشكوك الدولية، وان الغرب بشكل خاص سينظر إلى حجم المعارضة، إن وجدت، في البرلمان مقارنة بوجودها في الشارع، ومن مختلف التوجهات، قبل أن يحكم على هوية النظام ومدى مشروعيته.
واخيرا، ورغم كل ما سبق، سيكون من المشوق حقا مراقبة التصويت والنتائج الانتخابية في الاسكندرية بشكل خاص، وهي إحدى محافظات المرحلة الاولى، حيث يفترض أن تتركز اغلب قوة التيار السلفي، وخاصة في الاحياء الغربية من المدينة، وامتدادها على الساحل الشمالي حتى محافظة مطروح، حيث سيتبين كيف أثرت الاعوام الثلاثة الماضية على شعبيته ومصداقيته، وإذا ماكانت بعض قواعده المؤيدة للإخوان ستجذب أصوات الجماعة او داعميها، أو من بقي منهم، ومعنى هذا كله بالنسبة لواقع «الإسلام السياسي» ومستقبله في مصر والإقليم. وللحديث بقية.