من شرفته في الملإ الأعلى يطل علينا للمرة الرابعة.. ما زال هو كما ودعنا قبل أربع سنوات، ممتلئا كبرياء، وعنفوانا.. بقامته الفارهة وجبهته التي لم تنحن يوما إلا للذي رفع السماء بغير عمد..
ما يزال منتصب القامة كنخيل الفرات.. مرفوع الهامة كجبال "آكاكوس" بالجنوب الليبي.. باسم الثغر، حفرت السنوات أخاديد على جبينه الوضاح، ولكل أخدود قصة مع المجد والكبرياء والإيمان الذي لا ينضب..
هو نفس الرجل الذي قرر أن يموت كما يريد، ليمثل استثناء في مسار البشرية في هذه الرقعة التي تسمى مجازا "بلاد العرب".
ما يزال صدى صوته يرن في صحراء ليبيا التي لا تنب العشب، لكنها أرضعته قيم الرجولة وشيئا من تاريخ العرب، وأيامهم الخالدات، فكانت خير مرضعة لخير رضيع.
تمثل الشهيد فكره، فما لان عند اشتداد العواصف، ما انحنى، ما انثنى، ما انكسر، رغم هول الصدمة وتخاذل الأهل والجيرة والخلان..
كان يقول دائما وفي أحلك الظروف "هذه بلادنا ونحن فيها حتى النهاية".. وفعلا كان فيها حتى النهاية، فالرجل قارئ نهم للتاريخ، ولا يريد للأجيال التي ستمر على هذه الأرض من بعده أن تدون عنه سطرا واحدا يدنس صفحات تاريخه البيضاء.
أما نحن فنسظل نردد ما مرت ذكرى الـ20 من اكتوبر بأن معمر القذافي كان أمة، كان مدرسة للرجولة، ومنارة للعلم، وكعبة للثائرين.. اختزل في شخصه المتواضع تاريخ أمة، وأمل شعب، وطموح أجيال، لذلك لا غرابة إذا تداعى عليه أشرار الأمم والشعوب في معركة عدوانية متعددة الوسائل، فبعض الناس يخلق لإضافة لبنة جديدة إلى صرح الحضارة، أولإستعادة جزء من القيم الإنسانية النبيلة، أولتصحيح مسار البشرية، ومن هؤلاء الشهيد معمر القذافي.
وبعض الناس يولد في ظلمات الكهوف كالخفافيش، لاتقوى عيونهم على تمييز خيوط الفجر.. فُطر هؤلاء على العداء للشمس والحرية وكل المعاني والقيم النبيلة، ومن هذا الصنف كثيرون مروا سراعا على هذه الأرض وانطووا مع أكفانهم كأن لم يمروا عليها من قبل..
وبين الخير والشر صراع أزلي منذ الخليقة تتجسد مظاهره في صولات وجولات، وحروب وصراعات.. وكانت الحرب الصليبية التي تعرضت لها جماهيرية الشهيد صيف 2011 واحدة من تلك التجليات التي مكن الله فيها لقوى الاستكبار، امتحانا للثلة المؤمنة الصابرة المحتسبة مصداقا لقوله تعالى: " وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون."
بميزان الربح والخسارة كانت الكفة تميل لصالح حلف ساركوزي وحمد وشيخهما القرضاوي.. أدرك الشهيد القذافي ذالك ببعد نظره وخبرته الطويلة في العلاقات الدولية، ومعرفته الدقيقة بأن هذا الحلف الاستعماري لن يتخلى عنه إلى آخر رمق في حياته، لكنه أصر على المواجهة، رغم العروض المغربية التي تدفقت عليه من الشرق والغرب، يقول في إحدى خطبه: "نحن لا نسعى للحرب لكننا أهلها إذا فرضت علينا".
ليس العيب في أن تخسر جولة عسكرية، لكن العيب أن تفر من المعركة..
مات القذافي دفاعا عن قضية آمن بها، وكفه مشدودة إلى أرض آبائه وأجداده الذين سقوها بدمائهم الطاهرة قبل مائة عام.. مات واقفا كنخيل سرت، وقمم الجبل الأخضر، وكثيرون ما توا من بعده وطواهم النسيان، وكثيرون سيلحقون بهم.. وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ستختلف مصارع الرجال باختلاف معادن الرجال ومنابت الرجال..