في معنى رحيل جمال الغيطاني

اثنين, 2015-10-26 22:56
 زهور كرام

قال ذات يوم المخرج السينمائي المغربي الراحل محمد الركاب: «ليس سهلا أن يلد مجتمعٌ مبدعا». ليس الحديث هنا عن أي مبدع، يُمارس فعل التعبير بالوسائل الرمزية والفنية، والذي قد يقف عند مستوى تلبية متعة الذات في التعبير، بدون تجاوز تلك المتعة بالاشتغال على سؤال الإبداع، وتطوير ممارسته، ودعم تلك الممارسة بالاجتهاد في القراءة المتعددة المعارف والحقول، والبحث عن أكثر وأبلغ الأساليب والطرائق في تعبيره الرمزي، التي تُؤهله أكثر لتحقيق أفكاره وتصوراته، والسعي إلى التقاط اللحظة المُنفلتة، بكتابتها وحكيها، وترميزها، حتى يضمن لها حياة دائمة، عندما تُصبح ذاكرة لزمن أو مكان أو حالة، من أجل إنتاج معرفة إبداعية تكون قادرة على حمل رؤية فكرية، ومنتجة لتصور حول العالم، فيتحقق الحلم المزدوج، من جهة، يبني الإبداع العالم الممكن الذي يُحاكي الوعي الضمني للمبدع، ومن جهة ثانية يُطور هذا البناء الإبداع نفسه، إنما جُملة المُخرج السينمائي الراحل، تُشير إلى المُبدع الخلاَق، ذلك الذي عندما يُولدُ، يولد معه المعنى، أو احتمالات المعنى، معنى الأشياء والعالم، احتمالات معنى الذات والآخر، وتولد معه الذاكرة، ذاكرة المكان والزمن.
الولادة هنا، تعني مسار ممكنات أنتجت مبدعا، ومبدعٌ أنتج ذاكرة مجتمع. يتعلق الأمر بالمبدع الذي ينجح في جعل الإبداع شبيها له، أو يجعل من نفسه شبيها بالإبداع، وبتعبير آخر، وأكثر اقترابا من معنى الولادة المقصودة في الملفوظ السابق، أن تتحقق الحالة الصوفية بين الإبداع ومبدعه، بين المُبدع وإبداعه، فلا نستطيع التمييز بينهما، أو الحديث عن الواحد بدون استحضار الآخر. إمكانية الفصل بينهما تصبح غير ممكنة، لأن المُبدع تحول إلى حالة إبداعية، ومن ثمة إلى ذاكرة. إنها وِلادة ولاَدة وخلاَقة، ولهذا تعتبر استثناء في زمن الولادة، وذات خصوصية وجودية. «ليس سهلا أن يلد مجتمعٌ مُبدعا»، تختصر هذه الجملة معنى وجود المُبدع الخلاق الذي ينجح في إحداث الحالة الإبداعية. وهي الجملة التي نُرددها، عندما يرحل المُبدع الذي وُلد بهذا المعنى. لأن الفقد يحث على سؤال البحث عن كيف يمكن الاحتفاظ بذلك المعنى مع زمن الرحيل. نستحضر مع هذه الجملة رحيل المبدع المصري/العربي جمال الغيطاني ( 1945-2015 )، الذي برحيله، يفقد الإبداع العربي صوت «المبدع الخلاق». 
ولذا، يُصبح الرحيل زمنا ممكنا لبث الروح في هذا المعنى، عبر تفكيك عناصره، وإعادة ترتيبها من أجل الوعي بمفهوم الإبداع الذي يتطور نظامه ومنطقه عندما يُصبح المُبدع شبيها بالإبداع. وإذا كان الراحل جمال الغيطاني قد استطاع أن يوجد داخل هذا المعنى، فإن تفكيك بعض عناصر ممكنات ذلك المعنى، من شأنها أن تُذكر المشتغلين والمنخرطين في فن وثقافة الكتابة الإبداعية، خاصة الأجيال الجديدة بأهمية تثقيف الكتابة الإبداعية، بالاشتغال بها، حفرا وبحثا وممارسة، وحملها مسؤولية ورؤية فكرية حتى تستطيع أن تجعل من مُبدعها شبيها لها، فيولد معنى «ليس سهلا أن يلد مجتمعٌ مبدعا». عندما نُراجع حياة الكتابة الروائية لدى جمال الغيطاني، الذي انتصر لهذا المعنى، نلتقي بمجموعة من الممكنات، نشير فقط إلى اثنين منها نراهما يُلخصان أبعاد رؤيته الإبداعية: من جهة الإيمان بإنتاج الخصوصية، أو كما كان يعبر عنها جمال الغيطاني نفسه بالصوت الداخلي، الذي كان يقصد به تميزه عن الموجود في أسلوب الكتابة. لهذا، راح يبحث في التاريخ القديم، والأساليب التراثية عن أكثرها قدرة لتحرير متخيله، وبناء احتمالاته لمعنى الوجود والموجودات.
لم يتقيد بالموجود من الأساليب والأشكال، ولم يعتبرها سندا مرجعيا لرؤيته، وقد كلفه ذلك سفرا طويلا ومعرفيا في تاريخ الآداب القديم والفلسفات والتصوف والشعر القديم بدون أن يعني ذلك بقاء دائما في أزمنة تلك المعارف، واستهلاكا لنظامها، وإقامة دائمة في منطقها، بقدر ما كان السفر إليها وفيها يُحررها ـ هي أيضا- من حمولتها التاريخية، من خلال التصرف فيها عبر الأسئلة الحديثة، وجعلها تُحاور الراهن في الأساليب والقضايا. ولعله وعيٌ سابقٌ لزمن تطور الكتابة إلى مشروع عند الغيطاني، ذلك لأن الإبداع لدى الغيطاني هو لحظة ممارسة وتفكير في الوقت ذاته، وليست خطابا منتهيا بزمن كتابته. غير أن الحلم بالخصوصية، لا يعني ألا ترى إلا نفسك، ولا تعتقد إلا بأسلوبك في التعبير، ولا تُؤمن إلا بوجودك الإبداعي، أما الآخرون فهم مجرد ظلال لخطواتك.
الخصوصية لدى جمال الغيطاني، وكما عبَر عنها إبداعا وتعبيرا وتأكيدا في حواراته، هي القدرة على تحقيق الصوت الداخلي، الذي يجعل المُبدع «يُوجد ما لا يوجد مثله». غير أن هذا الصوت الداخلي، أو الخاص، أو العلامة التي تُميز مُبدعا عن آخر، لا يظهر إلا من خلال صوت/ أصوات آخر قائم وحاضر بقوة ونوعية في المشهد، ولذا، وجدنا الغيطاني يحتفي في رؤيته الروائية بالكاتب الكبير «نجيب محفوظ»، مُعلنا عن انتمائه لنجيب محفوظ باعتباره المرجعية الشرعية للرواية العربية، كما ينتمي غيره للمرجعية نفسها، غير أنه – في الوقت ذاته – يختلف عن هذه التجربة من خلال الاختلاف بطريقة وأسلوب التبليغ التخييلي. 
ومن أجل توضيح هذه الرؤية، فإن جمال الغيطاني يُقدم قراءة في مسار تطور الكتابة لدى نجيب محفوظ، التي تميزت بالتحول والتطور المستمرين، فـ«رادوبيس» و«زقاق المدق» يختلفان عن «الحرافيش»، وهذا راجع حسب الغيطاني، إلى قدرة نجيب محفوظ على التجديد المُنتظم، وفيما هو يجدد طريقته في الكتابة، فإنه يُجدد في الوقت ذاته الكتابة الروائية، ولذلك يعتبره الغيطاني مُؤسسا للرواية ومُجددا لها. إن الوعي بالصوت الداخلي للغيطاني يمر من الوعي بطبيعة الصوت الداخلي لنجيب محفوظ الذي تميز باختلافه عن أسلوب الرواية الأوروبية، وجعل الرواية العربية تُشبه حالتها العربية. استطاع جمال الغيطاني أن يُحقق لكتابته الروائية صوتها الداخلي باعتماد أساليب السرد القديم، الذي عاد إليه باحثا عن إمكاناته الأسلوبية والفنية والجمالية، التي تسمح له بالتعبير عن أفقه الخاص. أما العنصر الثاني الذي يشتغل مقوما فاعلا في تطوير الكتابة الإبداعية، وجعلها تعرف التحول المستمر نحو الجودة في بلاغة التخييل، يتمثل في الإيمان بهذه العلاقة التفاعلية بين الكتابة الروائية وقراءتها نقديا، واستثمار الغيطاني لهذا التفاعل بتطوير رؤيته في الكتابة، إذ كان يُؤمن بدور بعض الدراسات النقدية لأعماله في تطوير تجربته، نظرا لكونها تجعله ينتبه إلى ضرورة التعمق في بعض الأشياء.
نحصل هنا على مؤشر ملموس يعود إلى شخصية المُبدع، الذي يحمل رهان تطوير إبداعه، من خلال الآخر/الناقد، وعبر خطاب النقد، ودور هذا الأخير في تفعيل جودة التعبير، ولا يعتبر أعماله نصوصا منتهية، ومكتملة النضج الإبداعي. الكتابة الروائية عملٌ شاقٌ، وتحولٌ مستمرٌ، وسفرٌ دائمٌ في الأزمنة والتاريخ، وإيمانٌ بالقراءة باعتبارها فاعلا في تنظيم الكتابة وتعميقها. لذا، يصبح الاهتمام بمفهوم المبدع الخلاق، لا يعني فقط الاهتمام بأعمال المبدع، وتحليلها، وإنما إضاءة مختلف العناصر التي ميَزت هذه التجربة، ومنحتها بلاغة الحضور في منطقة الإبداع.
وإذا كان جمال الغيطاني قد بدأ الكتابة منذ 1959، وبقي مُخلصا لها حتى رحيله يوم الأحد 18 أكتوبر/تشرين الأول 2015، فإن هذه الفترة لا تختزل عدد الروايات، والدراسات والمقالات، بقدر ما تختزن مجموعة مهمة من السلوكات الاعتبارية والتصورات الفكرية حول الكتابة والرواية واللغة والأسلوب والأدب القديم/التراث والحداثة، والعمارة في الرواية، والتاريخ والتصوف وقبل ذلك كله، حول نجيب محفوظ الذي سنظل نراه في الغيطاني كصوت مختلف وليس مستهلكا. ألا يحتاج الدرس الروائي في مختلف مستويات تعليمه إلى الاهتمام – إلى جانب الدرس التحليلي للنصوص- بمكونات حياة الكتابة الإبداعية لدى المبدع، وليس بحياته الذاتية والاجتماعية؟