بلير والزرقاوي… وجهان لعملة واحدة

اثنين, 2015-10-26 23:03
توفيق رباحي

الذين سارعوا إلى التصديق أن رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير اعتذر عن غزو العراق شريكا للرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن، يجب أن يعيدوا الاستماع إلى مقابلته مع شبكة سي إن إن التلفزيونية.
ليس في الأمر اعتذار عن الحرب في حد ذاتها، بل على «المعلومات الاستخباراتية الخاطئة» التي قادت إلى قرار الحرب، ثم أسف على عدم القدرة على توقع ما بعد الغزو. وهي محاولة أخرى للالتفاف على الحقيقة والتهرب من المسؤولية التي، بمنطق بلير، يجب أن يتحملها ضباط وقادة أجهزة المخابرات وليس هو باعتباره صاحب قرار خوض الحرب.
بهذا الإقرار، يفتح بلير على نفسه جبهة أخرى من الأعداء تضاف إلى قائمة أعدائه التي يتصدرها عائلات الجنود البريطانيين الذين لقوا حتفهم في العراق، وأهالي العراقيين الذين قـُتلوا منذ 2003 وكان قرار بوش وبلير سببا، مباشرا أو غير مباشر، في حتفهم.
الأعداء الجدد هم ضباط وقادة الأجهزة المخابراتية الذين، بحكم الواجب والمسؤوليات الحساسة التي يتولونها، أُجبروا على الصمت لحد الآن. ولو نطق أحدهم أو بعضهم، لتغيّرت حتما كثير من المعطيات ومن الصور الراسخة في الأذهان.
مع الاتفاق على ان ماضي بلير ومسؤولياته تجعل منه مادة محبذة في غرف الأخبار يصعب على أي رئيس تحرير رفضها، نظريا لا يوجد سبب موضوعي لاستضافته في سي إن إن وحديثه عن غزو العراق بطريقة الاعتذار، إلا إذا مال المرء إلى الاعتقاد أن في الأمر ترتيباً ما وربما طلبا من مكتب بلير لإجراء المقابلة (يجب أن يسأل فريد زكريا الذي أجرى المقابلة عن ملابسات الترتيب لها ومَن طلب ماذا).
«اعتذار» بلير بعد اثنتي عشرة سنة من العناد والمكابرة يبدو مناورة سياسية أكثر منه صحوة ضمير. فهو يسبق ببضعة أسابيع (حسب التكهنات ولا شيء مؤكد) صدور قرار السير جون شيلكوت الذي أوكلت له مهمة التحقيق في ملابسات غزو العراق وأمضى ست سنوات «يحقق» أنفق خلالها عشرة ملايين جنيه أسترليني من أموال دافع الضرائب البريطاني، دون ان يعلم منه الرأي العام شيئا. 
الأكيد أن بلير، باعتباره «البطل» الرئيسي في التحقيق ـ المسلسل، يعلم بموعد صدور التقرير النهائي للجنة شيلكوت. والأكيد أنه يعلم مضمون التقرير ولو في خطوطه العريضة لأن طريقة عمل لجنة شيلكوت تتضمن إبلاغ الأطراف والاشخاص الذين سيتناولهم التقرير بالانتقاد وتحميلهم المسؤولية، ومنحهم فرصة التعليق.
وعليه اختار رئيس الوزراء السابق أن «يحرق» بشكل أو بآخر التقرير الذي انتظرته بريطانيا بفارغ الصبر، لينزع فتيل النقاش المحتمل بعد النشر.
وعلى الرغم من أن تقرير شيلكوت لا يُنتظر منه الكثير بسبب ضرورات الأمن القومي وسرية المعلومات وما تتطلبه من حذر في مساحة الحرية وأشكال الصياغات، اختار بلير استباقه لإنهاء النقاش قبل أن يبدأ ويغيّر اتجاه سهام اللوم والمساءلة قبل أن تنطلق.
ما من شك ان نية الجريمة توفرت سلفاً، وإلا ما كان بلير ليخوض بسهولة غزواً غيّر التاريخ والجغرافيا في منطقة معقدة ودمّرها بمن فيها، ويدافع عنه بكل ما أوتي من قدرة وقوة، وحتى بالكذب والتدليس أيضا.
وادعاؤه أن المعلومات الاستخباراتية الخاطئة هي التي قادته إلى اتخاذ قرار الحرب، وعلى فرض أنه صادق في ذلك، لا يعفيه من المسؤولية الجنائية والأخلاقية والسياسية للكارثة التي تركها وراءه. فهو صدّق المعلومات الاستخباراتية التي تحدثت عن امتلاك نظام صدام حسين أسلحة كيميائية واعتزامه استعمالها، لكنه لم يستمع إلى وزرائه ومستشاريه الذين سألوه عن غموض الرؤية حول ما بعد غزو العراق والإطاحة بصدام. 
شخص لا تتوفر لديه النية المبيتة لارتكاب جريمته، لا يأخذ فقط المعلومات الاستخباراتية التي تشجعه على اتخاذ قرار ما، وفي المقابل يتجاهل مساعديه الذين يسألونه عما بعد القرار.
أحد هؤلاء وزير داخلية بلير في الفترة التي مهدت لغزو العراق، ديفيد بلانكيت. هذا الأخير كان أول مَن شكك في اعتذار بلير، حتى وإن لم يعلنها صراحة، إلا أنه أعاد التذكير بعناد الأخير وإصراره على غزو العراق رغم التحذيرات ورغم عدم امتلاكه (وبوش) أي خطة تعقب الغزو.
بلانكيت كتب مقالا كشف فيه أنه حذّر بلير في اجتماع رسمي من مخاطر الإطاحة بنظام صدام على الأمن السلم الاجتماعي داخل بريطانيا، وسأله عمّا بعد الغزو، فلم يسمع منه ضمانات في هذا الخصوص.
إذا كان رئيس حكومة لا يمتلك أجوبة على أسئلة حرب يطرحها وزير داخليته في تلك الأجواء المشحونة والظروف المعقدة، ومع ذلك يصمم على الاستمرار فيها، فلا تفسير لذلك سوى أنه مغامر مجنون أو مجرم. وبلير حتما ليس مغامراً أو مجنونا، بل الأرجح أنه مجرم سيتحتم محاسبته أمام محكمة دولية ولو بعد مئتي عام. 
بلير اعترف كذلك بأن ذلك الغزو تسبب «بشكل ما» في بروز الحركات الإرهابية المنتشرة اليوم في العراق، ما يجعله والزرقاوي والبغدادي وجهان لعملة واحدة: الأول أوجد الثاني، والثاني نتيجة للأول.
«اعتذار» بلير ليس النهاية بل البداية لأمهات كثيرات مكلومات وعائلات تحطمت حياتها، وشعوب تغيّرت مصائرها. والسبب رئيس وزراء غدر بملايين البريطانيين رأوا فيه يوم وصوله إلى داوننغ ستريت في 1997، أملا واعداً بعد قرابة عقد ونصف من حكم المحافظين، فخرج من المنصب بعد أحد عشر عاما شبه مطرود وغير مأسوف عليه ليتحوّل إلى سمسار عقارات داخليا، ومستشار لبعض عتاة الديكتاتوريين خارجيا (في آسيا والشرق الأوسط).