سقوط جدار برلين: كوابيس الماضي أم أشباح المستقبل؟

جمعة, 2014-11-07 00:31
صبحي حديدي

تقول النكتة الروسية، اللاذعة تماماً، والصائبة أغلب الظنّ: «كلّ ما قاله الشيوعيون عن الشيوعية كان كاذباً، ولكن كلّ ما قالوه عن الرأسمالية اتضح أنه الحقيقة»! وكان المخيال الشعبي في روسيا، وربما في سائر دول «المعسكر الاشتراكي» سابقاً، قد ابتدع هذه المعادلة بعد أن ذاق ويلات اقتصاد السوق، خاصة في ظلال العولمة الوحشية؛ فأجرى مقارنات لا تتقرى الحنين إلى أشباح الماضي، بقدر ما تتخوّف من كوابيس المستقبل. وفي مناسبة احتفالات ألمانيا، وأوروبا والولايات المتحدة عموماً، بالذكرى الخامسة والعشرين لسقوط جدار برلين (9 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989)؛ تبدو هذه النكتة خلاصة بسيطة، ولكن عميقة بعيدة الغور، للمشهد الراهن في العالم الرأسمالي.
خلاصة أخرى يوفّرها استطلاع رأي، ألماني، على هدي هذه الذكرى تحديداً: بينما يعتقد 75% من قاطني ألمانيا الشرقية، سابقاً، أنّ توحيد البلد كان ناجحاً، لا يرى هذا الرأي إلا 50% من سكان ألمانيا الغربية، سابقاً أيضاً بالطبع؛ الأمر الذي يعني أوّلاً، ضمن اعتبارات أخرى لا تقلّ دلالة، أنّ التوحيد ليس ناجزاً بعد، أو ليس كافياً، أو هو ناقص بمعدّل 25% على الأقلّ! 
هذا إذا وضع المرء جانباً حقيقة أنّ المناطق الغربية لم تبرأ على نحو مرضٍ من التوق إلى ماضي الرايخ الثالث، أو هي تفعل ذلك ببطء شديد أقرب إلى التباطؤ، بدليل الصحوات المستمرة للجماعات النازية؛ على نقيض المناطق الشرقية، التي لا تحنّ إلى عقود «الاشتراكية» المريرة إلا، ربما، بدافع الشكوى من الرأسمالية. 
لكنّ ذكرى سقوط الجدار هي، أيضاً، تذكرة بإطار الحدث الأعرض، أو المناخ العام الكوني الذي أقام الجدار، لكي يسقطه بعد أقلّ من ثلاثة عقود، أي الحرب الباردة، أو «حرب المخيّلة» حسب ماري كالدور، الباحثة البريطانية المرموقة المختصة بالعلاقات الدولية وسياسات التسلّح. ذلك لأنّ فريقَي تلك الحرب، التي ظلّت افتراضية بالطبع، لم يكونا بصدد التحضير لمواجهة عسكرية فعلية تردع الطرف الخصم؛ واكتفيا بالترويج لها في نطاق المخيّلة، وعن طريق تضخيم الإحساس بأنها استمرار للحرب العالمية الثانية التي لم تنتهِ بعد، حتى إذا كانت قد وضعت أوزارها. ولهذا فإنّ عشرات المفردات المستلة من قاموس هذه الحرب، ما فتئت تجري على ألسنة وأقلام ساسة وكتّاب كثر، في الغرب عموماً وأمريكا خصوصاً؛ وليس بالضرورة لأنهم من رعيل المحافظين الجدد. 
واستطراداً، حول تلك الحرب وجدرانها، تُستعاد هنا تلك «البرقية الطويلة» التي أرسلها، في شباط (فبراير) 1946، القائم بالأعمال في السفارة الأمريكية في موسكو، جورج كينان، إلى واشنطن؛ والتي ستدخل التاريخ بوصفها التبشير الإيديولوجي الأوّل بحرب باردة سوف «تنشب»، في ميادين المخيّلة دائماً، بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
بعد البرقية، سوف يكتب كينان المقال الشهير في مجلة «فوريين أفيرز»، بتوقيع X، فيستحق عليه لقب «نبيّ الحرب الباردة» بلا منازع. وفي البرقية، كما في المقال، حاجج كينان بأنّ الولايات المتحدة لا تستطيع الوقوف مكتوفة الأيدي أمام ما سيجرّه خراب أوروبا الاقتصادي من خراب إيديولوجي؛ وهذا سوف يكون في صالح الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشيوعي، وسيقلب الانتصارات العسكرية الأمريكية إلى هزائم عقائدية للقِيَم الرأسمالية.
لكن المحتوى البراغماتي لم يكن يدور حول ملء البطون الجائعة، بقدر ما كان يستعجل تطويق الانهيار الوشيك في أوروبا، والسيطرة على تعطش الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين إلى ملء فراغ القوّة هنا وهناك، واستخدام سلاح المعدة الخاوية لضبط الأرواح الهائمة والعقول التي تفسّر الخراب. وكان كينان يريد للولايات المتحدة أن تتولى زمام «العالم الحر»، وتقبض بالتالي على أعنة العالم بأسره خارج الملكوت الشيوعي؛ عن طريق استخدام كيس الطحين، الذي سوف يكمل العمل الذي قامت به الدبابة والقاذفة أثناء سنوات الحرب وتحرير أوروبا. ذلك التنظير، الثاقب وبعيد النظر في الواقع، تلاقى مع انعطافة نوعية في السياسة الخارجية الأمريكية، مثّلتها «عقيدة ترومان»؛ مثلما تقاطع، إيجابياً، مع التطبيق العسكري الأوّل لتلك الانعطافة (التدخل في اليونان وتركيا).
وحين انهار الجدار، وبدأت «جحافل» الحرب الباردة المتخيَّلة تجرجر أذيالها صوب مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية عويصة، بنت الواقع الفعلي هذه المرّة، وليس الخيال؛ تقاطر، وتكاثر، المبشرون بأنّ انتصار القِيَم الغربية ساعة سقوط جدار برلين، هو في الآن ذاته انتصار لليوتوبيا الوحيدة المتبقية في حوزة الإنسانية، اليوتوبيا العليا والقصوى والأخيرة على هيئة «خاتم البشر» الذي بشّر به فرنسيس فوكوياما؛ واليوتوبيا التي يُراد لنا أن نسلّم بخلوّها، تماماً وأبداً، من الأزمات والهزّات والتشوّهات. كأنّ التاريخ لم يعرف فترات الركود الرأسمالية الطاحنة، وكأنّ اقتصاديات السوق الحرّ لم تشهد آلام العيش اليوميّ في كنف سياسات مفقِرة وظالمة.
ولقد ساجل هؤلاء بأنّ الاختراع الغربي للرأسمالية وللعلم وللديمقراطية الليبرالية، لا يبرهن على نجاح منقطع النظير، فحسب؛ بل هو يتقدّم حثيثاً لاجتياح العالم القديم والعالم الحديث في آن معاً: ما قبل الحرب الباردة وما بعدها، ما قبل الحداثة وما بعدها، ما قبل التاريخ وما بعده… أكثر من ذلك، لم يتردد المبشرون في الجزم بأنّ القرن الحادي والعشرين سوف يكون أوّل قرون الرأسمالية الصافية الصرفة، إذا ما تذكّرنا أنّ القرن العشرين خالطته شوائب غير صغرى مثل الشيوعية والنازية والفاشية والأصولية! فماذا يقولون اليوم في اعتلال هذا القرن الرأسمالي الصافي منذ السنة الأولى في تدشينه، على يد حفنة رجال مارسوا الانتحار الجماعي فوق أبراج نيويورك؟ وماذا يقولون في «داعش» ما بعد «القاعدة»، وما بعد «تحرير» العراق، وانهيار البورصات العملاقة، وانتفاضات «الربيع العربي»؟
ألا يبدو المشهد، في الذكرى الخامسة والعشرين لسقوط الجدار، وكأنه أمثولة فاضحة حول حضارة غربية متخمة بالتكنولوجيا والعلم والليبرالية؛ ولكنها أيضاً مختنقة بمواكب اللاجئين والمشرّدين والجائعين والقتلى، لأسباب إثنية أو مذهبية مناهضة تماماً لفكرة الأنوار والعقل والمدنية؟ وقبل خيام اللاجئين السوريين، ثمّ العراقيين، بعدهم ولكن قبلهم أيضاً؛ ألم يتابع العالم مشاهد خيام ألبانيا ومقدونيا ومونتينيغرو؟ ألا تنسف هذه، وسواها، صورة الهوية الغربية المعاصرة، التي خالت ذاتها سابحة بأمان واطمئنان في عوالم وردية من الرفاه والاستقرار والعلم والتكنولوجيا والليبرالية… التي تعبر الثقافات والأمم كما السكّين في قالب الزبدة؟ ألا تبدو هذه المشاهد وكأنها استعادة طبق الأصل لكلّ أحقاب الـ»ما قبل» في الحكايات الكبرى للحضارة الغربية، من اليونان القديم، إلى روما القديمة، إلى رحلة كريستوفر كولومبوس، إلى عصر الأنوار والحداثة؟
أخيراً، ولكن ليس البتة آخراً، مَن بطل تقويض الجدار، في نهاية المطاف؟
أهو الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، الذي تحدى نظيره السوفييتي ميخائيل غورباشيف، من غراندنبرغ، في برلين؛ هاتفاً: «تعال إلى هنا، إلى هذه البوّابة، يا سيّد غورباشيف… تعال وهدّم هذا الجدار!»؟ أم هي وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، التي زجّت بقواها كافّة (من الجواسيس والمندسين والمنشقين، إلى قنابل الروائح الكريهة في الاجتماعات العامة للحزب الشيوعي الألماني، ليس دون معونة أشخاص غير منتظَرين مثل البابا يوحنا بولس الثاني)؟ أم أنّ الأمر كان محتوماً، في كلّ حال، بسبب من تفاعلات الـ»بيريسترويكا» والـ»غلاسنوست» في الاتحاد السوفييتي؟
ولكن… مَنْ يكترث، حقاً، بأية إجابة شافية؛ ما دام المواطن، ما قبل الجدار وما بعده، تائهاً بين كوابيس الماضي وأشباح المستقبل؟