لا شك أن بناء مجتمع المعرفة بكل جوانبه وأبعاده يعد اليوم من أولويات العالم المتحضر ما يجعل البحث في هذا السياق هو النواة التي ترتكز عليها بلدان العالم المتقدمة والنامية لتحقيق هذا الهدف و تتنافس للحصول على قصب السبق و امتلاك ناصية العلم، مما يجعلها تسخّـر جميع الإمكانيات المتاحة لخدمة العلم و ترصد الأموال اللازمة للدراسات والبحوث التي تمكن في النهاية المشتهاة من ترقية الناتج الوطني للبلد و تحقق لمواطنيه الرفاهية و الاستقرار.
خلال إعلان مجلس جائزة شنقيط، في أعقاب مداولته يوم 15 اكتوبر الجاري، عن أسماء وأعمال الفائزين للعام 2015، تم حجب جائزة العلوم والتقنيات لعدم الأهلية العلمية لأي من الأعمال المقدمة لنيلها هذا العام.
كيف يمكن تفسير، أو على الأقل فهم، إلغاء مجلس "جائزة شنقيط" للأعمال العلمية بحجة عدم أهلية كل الأعمال المتقدمة لنيلها هذا العام، في الوقت الذي نشهد، على مرأى و مسمع منا في كل دول الجوار المحيط، عن مخترعين و باحثين أكاديميين و تقنيين و علميين يقدمون لصناعات بلدانهم و مخابرها و معاهدها البحثية والعلمية التي تتكاثر، سيلا من براءات الاختراع في شتى الاختصاصات الهندسية و البحوث المخبرية و يقدمون حولها الأعمال العلمية المستكملة الجوانب و يرشحونها عند الاقتضاء و في كل سانحة لكل الجوائز، و يعرضونها في المحافل العلمية المتاحة ليستفيدوا و يرفعوا شأن بلدانهم، و لقد أفلحوا في سعيهم ذاك و ذاع صيتهم و عظم شأن دولهم؟
لا شك أن الحصول على جائزة ما عن جهد بحثي عميق أو عمل أكاديمي رصين و مجدد حول الأدب أو التاريخ أو العلوم الإنسانية أو حول بواكير تجديد و إضافات في شتى شعب علوم الدين و ترصد علاقتها بمناهج مسار الأمة و البلد إلى مستقبل محرر من غث الثقافة و محصن من التشويه و ضامن مسار تقدم ثقافي يطبعه الإبداع و التجديد، هو محل فخر و اعتزاز، كما أنه يشكل إضافة هامة للمكتبة الوطنية المفتقرة إلى أي جهد معرفي رفيع المستوى.
و لكن بالمقابل تظل البلاد أكثر حاجة إلى بناء رصيد من العطاء العلمي تجسده طاقات بشرية تمتلك المؤهلات العلمية و القدرات البحثية و التطبيقية الضرورية لدفع التوجه إلى العلمية المطبقة على ميدان حركة التنمية بحيث تلحق البلاد بكب مثيلاتها التي تحيط بها و قد وضعت قدما تزيد سوخا باتجاه اعتماد البحث العلمي و ولوج عالم تطبيقاته و جني ثماره.
حقيقة، مرة بلغة العواطف و مربكة لخطورتها بلغة الواقعية، لا يضاهيها سوى ما هو واضح المعالم و منذر بمخاطر الاضمحلال من هجر هذه النخبة المتعلمة لساحة البذل و من غياب قدرة أفرادها عن ترجمة معارفهم الجمة، التي يفترض أنهم حصلوها، إلى أعمال بحثية علمية و أفعال تطبيقية بحتة و من انصرافهم عن دوائرهم الأكاديمية و العلمية إلى أحضان السياسة النفعية المُتحَرِرَة من الجهد الفكري و المترفعة بعقلية التعالى "الماضوي" عن الحضور الميداني التي ما زال يمليها استكبار "السيبة".
حقيقة مرة و صارخة، بنكسة البحث العلمي إن كان له أصلا من وجود في الواقع، تنوء البلاد تحت تراكماته الهائلة متمثلة بين أمور أخرى في:
ـ ضعف و تخلف مزمنين تعانيهما المنظومة التعليمية بكل مستوياتها و في كل أوجهها،
ـ تأخر بالغ في مجال البنى التحتية القاعدية التي تمهد للإقلاع التنموي المتوازن و الشامل،
ـ غياب أدنى قاعدة صناعية أولية أو تحويلية تستوعب القدرات و الطاقات العلمية إن أعدت و تبني قواعد بحثية و تشكل خلايا للتطوير و الاختراع و الإبداع الحرفي،
ـ انعدام أية سياسة جادة، منهجية و مستنيرة لـ"مرتنة "Mauritanisation des emplois technique" الوظائف الفنية و العلمية التي يتولاها الأجانب و يديرونها مع احتكار شديد للمعارف التقنية و حرص على أن لا يحوزها غيهم، الأمر الذي يعين عليه عزوف غالبية المواطنين عن اقتنائها و التزود بها لتكوين و إعداد أجيال وطنية ترفع الراية التحدي و تواصل المسار.
و لا يقف الأمر عند هذا الحد فحسب إذ لا تبدو الرٌؤْيةُ التربوية و المنهجية التعليمية و المحتويات العلمية واضحةَ المعالم، على مستوى التعليم العالي لأكاديمي و العلمي، و لا قادرةً على الإجابة عن متطلبات الخروج من حالة التأخر عن اقتناء معارف وعلوم البناء التنموي، و عن ضرورة الوصول إلى الاستقلالية العلمية التي تحقق برسوخها حضورا نوعيا للبلد و مساهمة في خلق مكانة مرموقة له و لنخبه العلمية مكانة معتبرة في سياق الحراك العلمي ألإقليميي و القاري و العالمي.
و يبقى في الأخير أن مجلس جائزة "شنقيط" اختار لنفسه، بما أبدى من النزاهة الفكرية و الرصانة العلمية، أن يتخذ مسارا قوامه التحري و القراءة المتأملة بالعلمية العالية المطلوبة للأعمال المقدمة لنيل الجائزة، و المراجعة المتأنية و المتمعنة في مستوى و قيمة و محتوى و منهجية الأبحاث، و هو بذلك إنما سجل حرصا مطلوبا على المصداقية التي تعكس مستوى مهمتها و اهتمام الدولة بتشجيع رواد الحركة الفكرية التنويرية و البحثية العلمية حتى ليشاركوا في بناء صرح علمي وطني يغطي كل الاحتياجات المعرفية و يكشف النقاب عن مكامن النقص في التحصيل و البحث و التأليف و كذا التوجيه و الإرشاد إلى متطلبات المرحلة في زمن لم يعد فيه مكان للشعوب التي تفضل راحة بحوث العلوم النظرية أكثر من الاهتمام بالعلوم الحديثة و لا تسعى إلى بناء مرتكزات الحاضر و رفع القواعد من صرح المستقبل.