الثقة… ذلك الغائب الأكبر عند الجزائريين

توفيق رباحي

في أحداث الجزائر الجارية منذ 22 شباط (فبراير) الماضي، كل شيء حاضر، من الطرفين، السلطة بقيادة الفريق أحمد قايد صالح ومعسكره من جهة، والمتظاهرون وموعدَيْهم الأسبوعيَين، الثلاثاء والجمعة، من جهة أخرى.
الغائب الأكبر هو الثقة. وفي غياب الثقة يستحيل أن يحدث التغيير التوافقي المنشود، حتى بتنظيم الانتخابات الرئاسية في 12 كانون الأول (ديسمبر) المقبل، التي تبدو كأمر واقع مفروض رغما عن الشارع المنتفض.
والثقة قصة طويلة جداً في علاقة الجزائريين بالنظام المفلس الذي حكمهم طيلة العقود الماضية. لا أحد من الطرفين وثق في الآخر منذ السنوات الأولى للاستقلال، ولا أحد يفعل الآن. ظلت علاقة مشحونة لا يتوفر فيها الحد الأدنى من الشعور بالثقة والاحترام. كان الحاكمون يقولون شيئا ويفعلون عكسه. يكذبون دون أن يرف لهم جفن. يَعدُون ويخلفون في الساعة التي تعقب تلفظهم بالوعد. وكنتيجة حتمية ومنطقية، ذابت الثقة في كل ما يرمز للدولة والحكم، وأصبح الجزائريون يسخرون من رموز حكمهم ويحتقرونهم ولا يأبهون كثيرا بالقانون.
يصلح هذا الكلام اليوم أيضا، لأن المياه الراكدة التي تحركت في 22 شباط (فبراير) الماضي أعادت للجزائريين ثقتهم في أنفسهم، ولكنها لم تفلح في أن تعيد لهم ثقتهم في الذين يحكمونهم.
قطار الثقة الذي تحرك عموديا بعد تنحية الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة وحاشيته، توقف فجأة باعتقال عدد من رموز عهد بوتفليقة. كانت تلك المحطة الأخيرة لذلك القطار سيئ الحظ، كأن هذا كل المطلوب وأقصى الممكن بينما هو منتصف الطريق، والنصف الآخر هو بناء دولة مدنية ديمقراطية تسود فيها الحريات والقانون.
توقف القطار بضغط من قائد الجيش، الفريق أحمد قايد صالح، بداعي التمسك بدستور تعرَّض لكل أنواع الانتهاكات في ظروف أقل تعقيدا وخطورة من الظروف الحالية بكثير. تحت ذلك العنوان قرر الرجل القوي في البلاد الاحتفاظ برئيس ممسوح ورئيس حكومة يُعتبَر ركنا من أركان العصابة (مكانه الطبيعي هو السجن مثل عبد المالك سلال وأحمد أويحيى وغيرهما)، والذهاب إلى انتخابات رئاسية مهما كانت الظروف.
وسط هذا الإصرار على الانتخابات، وضمن جهود التعجيل بها، اتُخذت قرارات ومورست إجراءات من النوع الذي يقتل الثقة. من هذه الإجراءات مطاردة المتظاهرين السلميين واعتقال رموز الحراك والتضييق على الحريات الإعلامية واستفحال خطاب التخوين والتهديد والوعيد، وعودة الإعلام الحكومي والإدارة إلى ممارسات بائسة لا تختلف في شيء عن ممارسات عهد بوتفليقة.

الجزائريون الذين يخرجون كل جمعة متحدين وسلميين، لا يفعلون من أجل استبدال بوتفليقة بآخر. إنهم يفعلون من أجل هدف مشروع أسمى لبلادهم وأبنائهم

ترافقت هذه الإجراءات مع أخرى مشابهة، كان من ضحاياها لجنة الحوار والوساطة. تضررت مصداقية هذه اللجنة من إجراءات النظام، رغم أن السلطة رعتها وشجعتها ودفعت رئيسها كريم يونس إلى التفاؤل والتبشير بـ«قرب اتخاذ إجراءات تهدئة» من قبيل الإفراج عن معتقلي الحراك ورموزه، فإذا بالممارسة اليومية تكشف أن العكس هو الذي يحدث. وآخر حلقات هذا «العكس» بقاء حكومة بدوي واعتقال الناشط السياسي كريم طابو، والقائمة مفتوحة. بل انتهى الأمر بكريم يونس أشبه بناطق باسم الحاكم وبلجنته ملحقة إدارية بلا استقلالية.
وسط هذه الأجواء الخانقة ستجري الانتخابات. تمتلك الدولة الجزائرية من الإمكانات البشرية واللوجستية ما يمكّنها من إجراء الانتخابات الرئاسية بيُسْر كبير. من الصعب تصديق أن النظام لن يكون له مرشحه المفضل الذي سيرعاه ويوفر له أسباب وأدوات الفوز والتي غالبا ستكون هي ذاتها التي هللت لبوتفليقة في أربع انتخابات وكانت على وشك بدء التهليل للخامسة.
لقد عاندت السلطة حتى حوَّلت الانتخابات الرئاسية إلى غاية في حد ذاتها لكي يضاف إلى سجلها اقتراع رئاسي «طبيعي» تتباهى به، ورئيس «منتخب» بغض النظر عن عدد الأصوات (بوش الابن تفوق على أل غور بـ500 صوت في إعادة الحساب بولاية فلوريدا عام 2000).
لكن هذه الانتخابات، في هذه الظروف، لن تختلف عن الانتخابات التي جاءت ببوتفليقة إلى هرم السلطة وأبقته بعد ذلك عشرين سنة. تلك أيضا كانت انتخابات سليمة ومشهودا لها. لكنها كانت عقيمة لم تُفد البلاد في شيء، بل ساهمت بالنزول بها إلى النكبة التي هي فيها اليوم. لم تكن تلك الانتخابات (وحتى التي قبلها) مزوَّرة بمعنى العبث بالأصوات والتلاعب بصناديق الاقتراع، بل كانت مزوَّرة سياسيا وإعلاميا، وجرت في أجواء ملوَّثة سياسيا وعديمة الثقة في الاتجاهين: المواطن نحو الحاكم والعكس.
الرئيس المنتخب هو أيضا، لن يكون مختلفا عن بوتفليقة حتى لو لم يكن طاغية ومصابا بجنون العظمة مثله. صحيح أن السياق يختلف، لكنه سيكون مجرد رئيس «آخر» فرضه الصندوق مثلما فرض بوتفليقة واليمين زروال والشاذلي بن جديد وهواري بومدين قبله.
والجزائريون الذين يخرجون كل جمعة متحدين وسلميين، لا يفعلون من أجل استبدال بوتفليقة بآخر. إنهم يفعلون من أجل هدف مشروع أسمى لبلادهم وأبنائهم.

القدس العربي

ثلاثاء, 17/09/2019 - 14:36