تونس.. الوحيدة التي تفوز دوما

محمد أمين

تواصل تونس الفوز في معركة الديمقراطية، فتلك الدولة الصغيرة جغرافيا، الكبيرة في فرادة تجربتها تواصل مراكمة النجاحات في مسيرة التحول الديمقراطي الحضاري، دون الدبابات، ودون الانقلابات، وبعيدا عن الإيديولوجيات المخدرة، أبهر التوانسة العرب في تجربتهم ومازالوا يبهرونهم، فرغم الحديث عن تراجع نسبة المشاركة جاءت النتيجة فارقة لتعكس وعيا وطنيا، وفرزا ذكيا للبرامج والأشخاص حيث تصدر المرشح المستقبل قيس سعيد النتائج يرافقه في جولة ثانية نبيل القروي.

   

لا نريد التعليق على صعود القروي، فقد قيل الكثير عنها، لكن مفاجأة قيس تستحق التوقف، فرغم تقدم سن الرجل إلا أنه يمكن أن يطلق عليه مرشح الشباب بامتياز، فقد صوتوا له تعبيرا عن تراجع ثقتهم في البرامج الحزبية التي تمشي بطيئا في تحقيق مطالب الثورة، ضمن معادلة حسابات بالغة التعقيد، سعيد كذلك هو الوحيد الذي كان عمله الأكاديمي والتحامه مع الشباب في الجامعات والمعاهد بمثابة حملة انتخابية مختلفة ومن نوع خاص، ربما ينجح الرجل وربما يخفق لكن هذه هي السياسة.

  

صحيح أن تراجع نسبة الاقبال وتدني الثقة بالأحزاب يعكس مؤشرا سلبيا على مسار التحول الديمقراطي، لكن من المؤكد أن عزل مرشحي الدولة العميقة وتراجعهم، وعجز الدولة بمؤسساتها عن ضمان الفوز لمن هم جرء منها يعكس وعيا انتخابيا وحالة صحية ربما يصح إطلاق عليها صفة " الحركة التصحيحية"، فهذه النتائج رشدت الأداء، وأرسلت برسائل غضب واضحة لمن يهمه الأمر، ووضعت الكرة في سلسة الأحزاب والقوى الثورية لتصحيح مسارها، وتلمس عثراتها.

    

   

شكل الممارسة بحد ذاته هو عملة نادرة في محيط عربي ملتهب، فبينما كان التوانسة يتوجهون لمراكز الاقتراع، كان آخر ديناصورات الثورات المضادة الجنرال حفتر يقصف جانبا من عاصمة بلاده، ويتوعد أبناء جلدته بالدم، وغير بعيد في الجوار منه كان الجنرال السيسي يواصل سياسية قلب الأولويات وتخريب الاقتصاد، لتكون ربما تونس ونجاح انتخاباتها بمثابة الملهم لشباب القاهرة والمحافظات الذين انتفضوا من جديد، في وجه قائد نظام عسكري، اختطف في غفلة من الزمن ثورتهم، واختزل بلدهم في ي شخصه.

  

لا يمكن قراءة المسار الديمقراطي في تونس بعيدا عن جوارها المشتعل، وبعيدا عن تجارب الدول الأخرى التي شهدت ثورات مشابهة لكنها انحرفت عن مسارها جراء عوامل داخلية، تمثلت في بؤس نخبها وزيف إيمانهم بالديمقراطية، وتسليمهم مقدرات الدولة والثورة للعسكر في سياق معركة كسر العظم مع خصومهم، وعوامل خارجية تمثلت في محور معاد للثورات لم يكن له أن ينجح لولا أنه وجد ثقبا يتسلل منه للداخل عبر أحد مكونات المشهد السياسي الداخلي من أحزاب وأفراد، أما في تونس فرغم كل ما يقال عن محاولات التدخل وشراء الذمم، فإن الانتخابات الأخيرة والتي سبقتها تؤكد دوما على أنها قطعت الطريق على تلك التدخلات.

 

 تنتقل تونس من الثورة، إلى بناء الجمهورية الثالثة بخطى راسخة، وتجربة محكمة، رغم التحديات الاقتصادية، وحالة الإحباط التي ينتاب بعض شبابها، لكنها ستتمكن من تجاوز تلك المرحلة، وستجبر خصومها على التسليم بمعالم العهد الجديد فيها، والذي يتمثل في حالة السلم الأهلي والتوافق على الصندوق كقوة وحيدة وواحدة في الفصل في الخصومات السياسية، والاحتكام له ليقرر من هو الذي يحكم البلاد ومن يجلس في مقاعد المعارضة.

    

خطاب العسكرة، الذي واكب صعود محور الثورات المضادة، والذي كانت ركيزته التشكيك في مخرجات الثورات العربية، بدأ في السنوات الأخيرة في الانحسار، وكم الانتكاسات التي جرتها النظم العسكرية على بلدانها سهلت من عودة القناعة لدى الجمهور العربي بعدم مصداقية تلك النظم، وعدم صلاحيتها للحكم، وسينزل الناس من جديد للشوارع لاسترداد ما سلب منهم في غفلة من الثورة، وكل المؤشرات تقول إن ذلك سيكون قريبا، وربما قريبا جدا.

اثنين, 23/09/2019 - 12:15