قراءة في كتاب مقاصد المعاملات ومراصد الواقعات   للشيخ العلامة: عبد الله بن بية               الحلقة: ١

باب ولد محمد أحمد رئيس محكمة مقاطعة المذرذرة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه.
وبعد:
فسنحاول في هذه العجالة المختصرة أن نستعرض بين يدي شيوخنا قراءة أحوذية مقتضبة في كتاب: مقاصد المعاملات ومراصد الواقعات للشيخ العلامة عبد الله بن بية، والتي نقترح تقسيمها إلى مقدمة ومحورين وخاتمة، أما المقدمة فهي فذلكة موجزة عن الكتاب وموضوعه، وأما المحور الأول فهو جولة داخل الكتاب وتعرف على أبرز مضامينه، وفي المحور الثاني: تلمس لأهم ملامح المنهج الأصولي  الاستدلالي كما اقترحه الشيخ وكما طبقه،
 * مقدمة* :
مقاصد المعاملات ومراصد الواقعات، كتاب يقدم  رؤى وحلولا فقهية رصينة مؤصلة لكبريات المشكلات والنوازل في العقود والمعاملات المالية المعاصرة، ويشكل جانبا تطبيقيا من المنهج الأصولي المقاصدي للشيخ عبد الله بن بية، الذي يتمثل في التصور العميق للواقع، والموازنة الدقيقة بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية في القضايا التي يبحثها.
إنه كتاب أنتجه الشيخ وأنضجه  في آماد متلاحقة،  إذ يبدو انه من ثمرات بحوثه وإسهاماته ومناقشاته في المجامع الفقهية التي هو أحد أبرز أعلامها ورموزها، ثم إنه سبق أن أبرز بعضها في كتاب صدر قديما باسم: توضيح أوجه اختلاف الأقوال في مسائل من معاملات الأموال، وهو كتاب حمل معظم بحوث الكتاب الذي بين أيدينا واحتفظ فيه الشيخ بآرائه واستدلالاته وبكل ملامح منهجه الفقهي والأصولي التي أبرزها فيما سماه: "إيجازا عن المعالجة"، غير أن هذا الكتاب  باسمه الجديد: مقاصد المعاملات ومراصد  الواقعات، وبما أضيف إليه من مضامين حمل اسما وروحا مختلفين، حيث أصبح المنهج الأصولي أكثر بروزا، وهكذا ظهر العنوان دالا عليه بكل وضوح  "مقاصد" و"مراصد"، وانتقل الشيخ من الجزء إلى الكل حيث كان في الكتاب الأول يسجل بحوثا وفتاوى جزئية، أما في هذا الكتاب فهو يؤسس ويشيد منهجا متكاملا في "صناعة الفتوى والحكم" على المعاملات المالية المعاصرة، وهذا ما يفسر إضافته للطليعة التي افتتح بها الكتاب حول الأزمة المالية  التي عرفها العالم سنة ٢٠٠٨، إيماء منه إلى ما شكلته من تزكية حاسمة لضوابط المعاملات الشرعية وقعت تحت حس غير المسلمين، حين تجاوزوها فأصبح اقتصادهم "يغدق فقرا"، فأشادوا بها مكرهين، واستشهد في هذا المنحى بقول بوفيس فينصان: (لو كانت بنوكنا الجشعة احترمت - ولو قليلا- الشريعة لكنا في وضع أحسن) وقد قال  تعالى: (أولم يكن لهم آية أن يعلمه علمؤا بني إسراءيل) ثم حديثه عن المال والمالية ووظيفته وأسباب كسب الملكية، والذي اقترح فيه توسيع مدلول المال، تبعا لنظرية الأيلولة عند المالكية، وهو أمر هام جدا لاستيعاب فكرة الملكية المعنوية ونحوها من الحقوق التي لا يستساغ في الواقع المعاصر تجريدها من صفة المالية،  ثم فصْلُ مقاصد منهيات البيوع وميزان درجات النهي في البيع، وهو فصل يشكل لب الفصول التي تناول فيها المقاصد، وأكثرها التصاقا وخدمة مباشرة للموضوع، ويشعر قارئه فعلا كما شعر هو بأهمية هذا المبحث و قلة  -أي عدم وجود- من يحوم حوله- يقول الشيخ: (وقلّ - وهي الجامدة النافية- أن تجد لدى الدارسين تصنيف هذه المقاصد لترتيب الأحكام عليها)، ثم بدأ الشيخ بعد ذلك في استعراض مسائل ونوازل جزئية وعرْض رأيه بشأنها، وهكذا أصبح هذا الكتاب خزينة لآراء الشيخ في نوازل المعاملات المالية المعاصرة، وترجمانا نظريا وتطبيقيا لمنهجه في التعامل معها، فما هي أهم مضامين هذا الكتاب، وما هي ملامح منهجه الاستدلالي الذي يقترحه ويطبقه؟ ذلك ما سنحاول الإجابة عليه في المحورين التاليين:
 *المحور* *الأول* : *جولة* *داخل* *الكتاب* 
يتألف كتاب مقاصد المعاملات ومراصد الواقعات من مقدمة وخمسة فصول، ورغم أننا نرى ان الشيخ هو الممسك بزمام الكتاب، وهو أدرى بحقيقة المضامين وما يلائمها منهجيا، فإننا نرى ان اثنين من هذه الفصول هما في الحقيقة مقدمتان أيضا، وإن سميا فصلين فهما فصلان تمهيديان؛ لأنهما أعم من موضوع البحث، غير أنهما مفيدان جدا لفهم آراء الشيخ وتأطيرها ضمن منهجه الأصولي المقاصدي النصي. ومهما كان فإننا سندخل على ما أحرم به الشيخ الإمام من تسميتهما فصولا، ونقدم ملخصا عن مضمونهما:
 *فأما* *المقدمة* : فتتألف من ثلاثة عناصر أو عناوين: مقدمة معهودة  بداها بالحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وبيان أهمية الفقه وموضوع الكتاب، لكنها ستأخذ منعرجا بالغ الإفادة حين يبرز الشيخ عنوانا سماه: إيجازا عن المعالجة، يتلخص في تشخيص المسألة من حيث الواقع، والتكييف الفقهي للمسألة أي وضعها في خانة معينة تحت لقب شرعي، ثم عملية تلمس الدليل، التي قدم فيها نظرة تختصر وتستحضر كل أصول الفقه، وهذا الإيجاز البليغ عن المعالجة هو بذرة أو طِية قرأناها قديما في توضيح أوجه اختلاف الأقوال، ثم نشّرها الشيخ وأخرج شطأها وآتت أكلها أزهى وأشهى ما يكون في كتبه: أمالي الدلالات ومشاهد من المقاصد وتنبيه المراجع، وقد ذكر الشيخ أنه التزم هذه المنهجية في بحوثه، بمعنى أن ما ورد في هذا الإيجاز يشكل ميثاقا بينه وبين المتلقي يحاسبه على أساسه، يقول الشيخ: (وطبقا لما تقدم فإن الحكم يولد بعد مخاض ليس باليسير، ويمر بمحطات عديدة، ولعلي التزمت بهذا المنهج حيث يعوز النص، أما إذا وجد الدليل فإليه المصير) ثم ينتقل الشيخ بعد هذ ا الإيجاز، - وفي إطار المقدمة دائما- إلى ما سماه طليعة: الأزمة المالية العالمية، حيث تحدث عن مظاهرهاوأسبابها ، والتي أوجزها في: التعامل في الذمم وبيع المعدوم والمضاربة على التوقعات والرهون العقارية غير المقبوضة، وخلق أدوات تمويل لا تشكل مالا حقيقيا، بل هي تسليع للنقود وتسييل مبالغ فيه للأصول، وذكر أن جذورها قديمة تحدث عنها أو تنبأ بها أحد مستشاري  ألمانيا منذ ثلاثين سنة، ثم انتقل الى تشخيص تلك الأزمة وبيان طرق علاجها، فذكر أن بعض مفكري الغرب استنجدوا بتعاليم الشريعة لعلاج تلك الأزمة كما أسلفنا، وعرض الشيخ رؤيته في ذلك تشخيصا وعلاجا، وهي تتمثل عنده في جانبين: جانب   فلسفة المعاملات المالية عند الغربيين، وخاصة ما يتعلق بعدم التدخل مطلقا في حرية السوق، وتقديس الملكية الفردية، بدعوى أن سعي الإنسان للربح هو الأساس لرفاهية المجتمع، وجانب العمليات والأدوات، فالعمليات المسؤولة عن هذه الأزمة هي الفائدة الربوية وبيع الدين والمنتجات المشتقة والرهون العقارية، وأما العلاج فذكر فيه الشيخ أن للشريعة (موقفها من فلسفة المعاملات ومن العمليات التفصيلية للعقود)واستعرض مقاصد الشريعة في المعاملات المالية ووصفها بأنها فلسفة التشريع، ومعايير التداول والتوزيع، وهي: الرواج والوضوح، والحفظ والإثبات والعدل) أي أنه بالرغم من كون التراضي هو قاعدة المعاملات، فإنه ليس مطلقا وإنما ترد عليه هذه القيود في الشريعة الإسلامية، وقد توقف الشيخ مع كل واحد من هذه المقاصد بالتوضيح والشرح، وسيذكره أيضا ويعيده في إطار الحديث عن المقاصد وعن المقاصد الجزئية بالذات.
ثم تحدث بعد ذلك عن موقف الشرع من الأدوات التمويلية الأربعة التي سببت الأزمة، وذكّر بأن المجامع الفقهية كانت قد أفتت بحرمتها ونبهت على خطورتها، ويورد نص توصية للمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي قبل نحو ثلاثين سنة من كتابة الكتاب.
       وفي ثالث عناصر المقدمة: تحدث الشيخ عن المال والمالية ووظيفة المال وأسباب كسب الملكية، فاستعرض تعريف المال في المذاهب الأربعة، وأبرزها وأعزها تعريف أبي إسحاق الشاطبي له بأنه: (هو ما يقع عليه الملك ويستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجه شرعي) وقد رأى الشيخ أنه ينبغي توسيع مفهوم المال استنادا إلى مفهوم الأيلولة عند المالكية لحل الإشكالات في العقود الحديثة، وكأنه يشير الى الملكية المعنوية بمختلف صورها، فعبر بالاعتياض عن فعل أو الامتناع عن فعل، وأسباب التملك التي حددها في أربعة: الاستيلاء على شيء لا ملك لأحد عليه، والتبرعات والتبادل بالأعواض والمشاركات. ثم ان الانسان مستخلف في المال وفرع وليس مالكا أصليا، ويلزمه ان يعرف وظيفة المال الذي وكل عليه، فالانسان مأمور باقتناء المال؛ لكن من وجه مباح، طبقا لما فصل الشرع له من اسباب الكسب المباحة وطريقة الإدارة والتصرف، ولذلك منع من التبذير ومن التقتير.
ثم بعد هذه المقدمة بل المقدمات الممهدات ينتقل الشيخ إلى فصول الكتاب، والتي لا تعدو ثلاثة منها ان تكون مداخل ومقدمات أيضا لموضوعات الكتاب، ولذلك سنمر عليها سريعا:
 *ففي* *الفصل* *الأول* : الذي عنونه الشيخ بتعريف المقاصد، تحدث الشيخ عن أصناف المقاصد مباشرة، ولم يعرف المقاصد بالمعنى الأعم - ربما اتكالا على تعريفه المسهب لها في كتابيه: المشاهد والأمالي- فقسمها الى مقاصد كلية ومقاصد جزئية؛ ومقاصد أصلية ومقاصد تابعة، ثم أفاض في شرح المقاصد الكلية والتمثيل عليها، وعرّج بعد ذلك على المقاصد الجزئية، 
وبعد ذلك استطرد حديثا عن مناحي الاستنجاد بالمقاصد، ذكر منها أحد عشر منحى، وهي بعض المناحي التي ذكرها في الأصل في أمالي الدلالات، وبنى عليها كتابه: علاقة المقاصد بأصول الفقه، فهي في الاصل أدلة ساقها على ان المقاصد جزء لا يتجزأ من اصول الفقه، ردا على من رآها فنا مستقلا مثل الإمام الطاهر بن عاشور، وربما كان إيراد الشيخ لهذه الخمسة عشر منحى هنا واختياره لها دون غيرها تنشيطا لذاكرة قارئ هذا الكتاب لكونها ألصق تلك المناحي بالموضوعات المالية، ويظهر ذلك بشكل واضح في المنحى الأول الذي هو الاستنجاد بالمقاصدلإلحاق فرع لا نص فيه بأصل منصوص، وهذا المنحى الأول هو أول خطوة عند الشيخ في المرحلة التي يسميها تلمس الدليل، كما بينه في إيجازه عن المعالجة، وكذلك المنحى الخامس:  وهو تقرير مرتبة الحكم ونوع الحكم مناط الأمر، وهو منحى مهم جدا، أشار الشيخ إلى انفراده به في حديثه عن مراتب درجات منهيات البيوع، وطبيعة تأثير الضرورة أو الحاجة تبعا لدرجة النهي، وكذلك المنحى التاسع وهو التعبد ومعقولية النص، وهو منحى استنجد به الشيخ في كتابه عن إعمال المصلحة في الوقف، ورجح كونه معقول المعنى، وفتح الباب أمام استصلاح الوقف واستبداله واستثماره.واما المنحيان: الحادي عشر والثاني عشر فهما مرتبطان بالموضوع مباشرة، فالمنحى الحادي عشر هو مراعاة قصود العقود في التصحيح والإبطال بالشروط، والمنحى الثاني عشر يتعلق بتمييز عقود المعروف عن عقود المكايسة الصرفة لإحداث حكم بين حكمين، مما يجيز التجاوز عن بعض أسباب الفساد.
   *وفي* *الفصل* *الثاني* : تحدث عن مقاصد المعاملات المالية، وأعاد ما سبق أن نقله عن ابن عاشور، ثم اقترح تسمية مغايرة لتسميته، ووضع ميزانا تراتبيا لتلك المقاصد، فمقاصد الشرع في المعاملات المالية عند الشيخ هي:  الكسب والحفظ والتوثيق والتقابض، وأعلى هذه المقاصد هو:
- الكسب والإيجاد؛ إذ لا تقوم بنية الإنسان ولا يتصور بقاؤه إلا بالمال، 
-  ويليه حفظ المال، وهو الذي جعله الأصوليون خامس المقاصد الضرورية، ويكون من حيث الوجود بحسن التدبير وبالادخار والتوسط في الإنفاق؛ ومن حيث العدم بمنع الاعتداء وحرمة الغصب والسرقة.. واشتراط التراضي في العقود ومنع الغش والخديعة والخلابة..
- ثم التداول أو التبادل: وهو ضد الاحتكار والكنز، 
ثم يسترسل الشيخ بعد ذلك في الكليات وتتماتهاوالعلاقة بينهما، وهل هي منحصرة في الخمس أم تقبل الزيادة بما هو أليق بعلم المقاصد، وحسبنا منه الخلاصة الموجزة التي استخلصها الشيخ في أثناء الحديث قائلا: (وعلى هذا نستخلص أن المقاصد المتعلقة بالمال منها ما هو في الذروة ومنها ما هو دون ذلك؛ أي منها ما يقع في المقصد الضروري ومنها ما يقع في المقصد الحاجي، ومنها ما يقع في المقصد التحسيني، فالإجارات مثلا هي من الحاجي...؛ أما الخيار فهو مكمل للحاجي؛ أما التحسينات فيمكن ان نعتبر منها منع بيع النجاسات ونحو ذلك...)

خميس, 16/01/2020 - 22:19