المرء ابن بيئته!

مغلاها منت الليلي

من قصص العرب المتداولة أن عليا ابنَ الجهم، وهو الشاعر البدوي الفصيح، ورد يوما مجلس الخليفة العباسي المتوكل مادحا فقال:
أنت كالكلب في حفاظك للود
وكالتيس في قراع الخطوب!
أنت كالدلو، لا عدمناك دلوا..
من كبار الدِّلا.. كبير الذنوب..!!
استغرب جلساء الخليفة وصف الرجل له بهذه الصفات البشعة التي لا تليق بحاكم أكثر بقعة تطورا ازدهارا حينها على وجه الأرض.. وباتوا ينتظرون ردة فعل الخليفة على من يشبهه بالكلب والتيس والدلو الجالب الماءَ من البئر غزيرة المياه "كثير الذنوب"!!! 
لكن ردة فعل الخليفة جاءت مخالفة لكل التوقعات! حيث أمر للبدوي الشاعر بدار جميلة تطل على شاطيء دجلة... حيث النسائم العليلة.. وريارض الزهور المتفتحة.. والبساتين اليانعة الخضرة.. وحيث جسر الرصافة البديع.. وأجواء بغداد الساحرة.. ولياليها المترعة بالشعر والسمر والطرب.. وأيامها العامرة بطلاب العلم  وكبار العلماء في كل المجالات.. ودروبها.. وأزقتها.. وحواريها..وعمرانها الراقي.. وأهلها المستنشقون عبق حضارة لم يألفها البدوي الجلف القادم لتوه من عمق الصحراء!!!
انغمس صاحبنافي هذا الجو المترف.. وخالط قوما أنعم الله عليهم بمُتَعِ ورفاهية الحياة.. وسمع من الكلام ألطفه ومن الشعر أعذبه.. ولبس من الثياب أجملها وأفخرها وعرف من الأطعمة ألذها ومن الأفرشة أنعمها.. وتبدل فكره ومشاعره تناغما وانسجاما مع الوضع الحياتي الجديد...
بعد حين من الدهر استدعى الخليفة المتوكل شاعره "البدوي" ليسمع منه بعد فترة "النقاهة" تلك... فوقف بين يديه منشدا:
عيون المها.. بين الرصافة والجسرِ
جلبن الهوى.. من حيث أدري.. ولا أدري
أعَدن ليَّ الشوق القديم ولم أكن...
سلوت.. ولكن زدن جمرا على جمرِ
سلمن.. وأسلمنَ القلوب كأنما...
تُشَكُّ بأطراف المثقفة السُّمرِ
وقلنَ لنا .. نحن الأهلة إنما ...
نضيءُ لمن يسري بليل.. ولا نقري

إلى ان يقول:
خليلي.. ما أحلى الهوى وأمرّهُ
وأعرفتي للحلو منه وللمر ٍِ.....
بما بيننا من حرمة هل علِمتما....
أرقَّ من الشكوى وأقسى من الهجرِ
وأفضحَ من عين المحب لسِرِّهِ
ولا سيما إن أطلقت عبرةً تجري...

فقيل إن المتوكل لما سمع هذا الشعر العذب قال: "والله لأخشى على ابن الجهم أن يذوب رقة وعذوبه"!!!

المرء إذن هو ابن بيئته البار..  وإذا أردنا أن نغير سلوك أحدهم فلنبدأ أولا بتغيير واقعه الحياتي وظروف عيشه...

ثلاثاء, 21/01/2020 - 10:30