أن تكون عربيا في زمن العبرنة

محمد أمين          كاتب فلسطيني

أن تكون عربيا في زمننا، يعني أنك قررت المواجهة، والسير عكس "تيارات" وليس تيارا واحدا، فأن تكون عربيا يعني أنك ضد التطبيع، ومع فلسطين، ضد الاحتلال ومع المقاومة، مع الحريات وضد الاستبداد، وهذه كلها تهم باتت تودي بمن يضبط متلبسا بها في العالم العربي في غياب السجون، متهما بالإرهاب، أو على قوائم "مفتي السطان" منتظرا رقمه في قوائم الإعدام.

 

 يصح والحال الذي نعيشه في أن نطلق على هذا العصر "زمن العبرنة"، إذ تبدو فيه إسرائيل في غفلة من الزمن تحكم سطوتها على العالم الحر، عقب نجاحها في تمرير جملة من القوانين التي تجرم انتقادها، مستقوية كذلك بدعم أكبر دولة في العالم، والذي لا نبالغ إذا قلنا أن رئيسها قد تقدم بطلب انتساب لعضوية حزبها الليكودي اليميني المتطرف، إلا أن الأمر المثير للبؤس والإحباط هو " عرب إسرائيل" ولا أقصد هنا " فلسطينيو الداخل" فهؤلاء أبناء البلد، هم فلسطينيو الأرض المحتلة، إنما "عرب إسرائيل" ممن يتسابقون للتطبيع والأسرلة في بلادنا العربية، سقوطهم مثير للاشمئزاز، لا تحصر الأوصاف التي يمكن أن تصف بشاعة فعلتهم.

 

لكن اللافت أن "عرب إسرائيل" الذين يراهنون عليها في الحفاظ على عروشهم لا يقرؤون التاريخ ولا صيرورته، فلا يمكن أن يضمن لحاكم استمراره سوى شرعيته وحب أبناء وطنه له، كما لا يمكن أن يعيش شعب بكرامة إذا قرر التنازل المجاني عن هويته وتاريخه، وبالمحصلة لا يمكن للأمة العربية والإسلامية أن تجد في تخليها عن قضيتها المركزية "فلسطين"، طريقا للخلاص، هذا المسار هو وصفة لتسريع الانهيار وليس ضمانة للاستمرار.

أن تكون محاصرا بمثلث النفط والدين وإسرائيل، فهذا توصيف قديم لحالك كعربي، لكن أن يعمل الاثنان الأولان بكل عزم ووضوح لصالح الضلع الأخير من المثلث، فهذا الجديد في الزمن "اللاعربي "الراهن، وحيث تتالى الأخبار عن اعتزام عرب في وطننا التطبيع مع إسرائيل، فإنه ينبغي تنبيه هؤلاء بأنهم يقدمون على مغالطة كبرى، فلم تكن إسرائيل يوما ملاذا آمنا لأحد ممن قصدها، دعونا نتذكر في السنوات الأخيرة تجربة مراهنة بعض الأكراد ممن سكنهم حلم الدولة والاستقلال، ومراهنتهم على إسرائيل وقدرتها على تحقيق حلمهم، وكيف أقدموا مبكرا على التطبيع وشرعنة التعامل والتحالف معها، ثم كيف أنها تخلت تماما عنهم عندما حل استحقاق طلب الاستقلال وإقامة الدولة، تركتهم لقمة سائغة لدول الجوار والإقليم.

 

مسألة التطبيع ومقاومته ليست شأنا فلسطينيا كما يروج بعض كتاب " عرب إسرائيل"، وإنما شأنا عربيا وإسلاميا، فهذه الأمة الممتدة من المحيط إلى الخليج تم غزوها مبكرا عبر إقامة هذا الكيان الصهيوني في خاصرتها، والذي شكل ركيزة أساسية فيما تعانيه من الفرقة، والانقسام، والتفريط بالأمن القومي، وتبديد مواردها الطبيعية، وتعبيد الطريق لهيمنة واحتلال القوى الغربية لها، وقد أشار خليل السكاكيني مبكرا لهذا عام ١٩١٤ في اطار مناشدته للعرب عدم التخلي عن فلسطيني لأنهم بذلك يتخلون عن أوطانهم حين قال: " إن الصهاينة يريدون أن يمتلكوا فلسطين قلب الأقطار العربية والحلقة الوسطى التي تربط الجزيرة العربية وأفريقيا، وهكذا يردون كسر الحلقة وتقسيم الأمة إلى جزئيين للحيلولة دون توحدها".

 

جوهر التطبيع وخطورته تكمن في إحداث تغيير في الموقف العربي والإسلامي، يبدأ بالتسليم بوجود "إسرائيل" كدولة يهودية، وصولا إلى تغيير المواقف تجاه هذا الكيان بصورة جذرية، وهو الأمر الذي عجز الاحتلال عن تحقيقه عسكريا جراء مقاومة الشعب الفلسطيني الباسلة مدعوما بمحيطه العربي والإسلامي، فذهب لبناء الجدران، ومن يبني الجدران يعني أن مشروعه في تقهقر وانحسار، قبل أن يبدأ زمن التطبيع الذي سيخرج الاحتلال من عزلته، ويتيح له القدرة على التغلغل أمنيا واقتصاديا وعسكريا في المنطقة، ومن يعرف الصهيونية يعرف أنها ذات استراتيجية سرطانية تبدأ بالإجهاز على جسم المريض بعد أن تتسلل بصمت وخبث لخلاياه.

وبقدر ما يبدو التطبيع في ذاته هدفاً من أهداف الاستراتيجية الصهيونية، فإنه يعد كذلك أداة من أدواتها في العمل، ويتكامل مع أدوات العمل الأخرى عسكرية ودبلوماسية.. الخ، فكل الحروب التي خاضتها إسرائيل فشلت في دمجها في المنطقة، وتمكينها من الاستحواذ على مواردها كالوصول لاحتياجاتها على سبيل المثال في مصادر المياه، لكنها حصلت على ذلك عبر اتفاقات السلام، كما تتكفل الاستراتيجية الإسرائيلية للتطبيع في الاستحواذ الاقتصادي على مقدرات دول المنطقة، ومثال على ذلك العقود طويلة الأجل لتصدير الغاز الإسرائيلي لمصر، والذي يعد أكبر عملية سطو على أمن الطاقة في أكبر بلد عربي، والاستحواذ عليه، فضلا عن حل مشاكل إسرائيل الاقتصادية.

 

كذلك فإن صفقة القرن بشقها الاقتصادي هي عبارة عن ضخ الأموال لصالح إسرائيل ومن أجل رفاهها، وتحقيق تنمية اقتصادية لها، ومن يتحدث عن فوائد عربية فهو واهم، من يحاول القول أن خلافاتنا الحالية مع إيران خلافات ترقى لخطر المشروع الصهيوني، فإن الرد عليه يكون بأن خلافاتنا مع إيران في الأصل خلافات سياسية، وإلا كيف نفهم أن " المحور السني" الذي يقول أنه يواجه " إيران الشيعية" يشن حربا شعواء على فصائل وجماعات سنية " كحماس" وكذلك فصائل سنية حاربت معه ضد إيران ك " حزب الإصلاح في اليمن".

 

 ما يعرف بـ"المحور السني"، هو محور متوهم والحقيقة أنه محور صهيوأمريكي، يحاول من بدأوا في الترويج له مبكرا اقناعنا اليوم أنهم يحاربون إيران، فيما الحقيقة أنهم يعلنون حربا على الأمة، فمن يبيع القدس، ويطالب بتسليم مآذنها وكنائسها لإسرائيل هو خائن، والخائن ليس عربي.

 

نقلا عن الجزيرة نت

خميس, 13/02/2020 - 15:05