ترمب و«تويتر»: الدولة أم مواقع التواصل؟

عبد الله بن بجاد العتيبي

الصراع التاريخي بين الديمقراطيين والجمهوريين داخل الولايات المتحدة أمرٌ تقليدي وقديم، ولكنه تطوَّر مؤخراً إلى صراع حاد جداً وغير مسبوق. بدأ ذلك كله مع الرئيس السابق باراك أوباما الذي انحاز للانعزالية، وسعى لتغيير دور أميركا في العالم وقلب تحالفاتها، وكان الرد حاداً بانتخاب الرئيس دونالد ترمب.

على بعد أشهرٍ من الانتخابات الأميركية، يشتد الصراع اليوم بين الرئيس ترمب والتيار «الأوبامي» تحديداً داخل الحزب الديمقراطي، وفي وسائل الإعلام المنحازة كلياً نحو «الأوبامية» الجديدة. وخيارات الشعب الأميركي تمثل طموحاته وصراعاته ومصالحه. ولكن ثمة سؤالاً مُلحاً جداً هنا، وهو عن بعض مثقفي الدول العربية ودول الخليج العربي تحديداً، الغارقين في حب «الأوبامية»، لماذا يفعلون ذلك؟ وهل فعل أوباما شيئاً إلا ضرب مصالح دول الخليج في المنطقة والعالم، والتحالف مع كل خصومها وأعدائها من النظام الإيراني إلى جماعة «الإخوان المسلمين»؟ إذن لماذا؟

هل يشككون في أن سياسات أوباما كانت مضرة بدول الخليج؟ أشُك؛ لأن عدائية سياسات أوباما أوضح من أن يدلل عليها بقرار مفرد أو توجه معين، فهي في كل مجال تقريباً. هل غرق البعض في الجدل الداخلي الأميركي، ونسي مكانه من التاريخ والجغرافيا، فأصبحت خياراته ترفيةً فحسب، ولا علاقة لها بالواقع؟ هل هو خضوع للتيارات اليسارية الجديدة من دون تفكير في الذات، إما لهوى شخصي وإما لاستلابٍ أكاديمي، وإما لمجرد مخالفة الدولة، مجرد المخالفة؟ سلسلة أسئلة لا تكاد تنتهي وهي مجال رحب للجدل.

الرئيس ترمب يعبر عن رؤيته التي لا تتفق بالضرورة مع الحزب الجمهوري، ولكن أتباع أوباما يسعون لتغيير الحزب الديمقراطي وأميركا كلية، وهو ما سبب لهم تشنجاتٍ سياسية غير معهودة، من تمزيق خطاب الرئيس ترمب على الهواء، إلى خروج أوباما الرئيس السابق عن صمته ومهاجمة الرئيس الحالي، وسوابق أخرى.

أي مواطنٍ خليجي أو متعاطفٍ مع دول الخليج، كان سيشعر بالحرج التاريخي الذي سببته إدارة أوباما لدول الخليج، وحجم الارتياح لوصول إدارة ترمب بعدها التي أعادت الأمور إلى نصابها في المنطقة والعالم. فلماذا يشعر البعض بأهمية ازدراء ترمب وتمجيد إرث أوباما، وخصوصاً حين يكون خليجياً؟ هل يعتقد هؤلاء بأن الالتزام بالآيديولوجيا أهم من حياة أبنائهم واستقرار بلدانهم؟

يعرف الرئيس ترمب جيداً كم تعاديه منظومات الإعلام اليساري، ولذلك تركها وأخذ يصنفها دائماً بأنها وسائل الأخبار الكاذبة، واعتمد على مخاطبة أتباعه بشكل مباشر عبر موقع التواصل الشهير «تويتر» الذي استهدف بشكل مباشرٍ الرئيس ترمب الأسبوع الماضي، ونصَّب نفسه حكماً على مواقع الرئيس وتغريداته، ما دعا الرئيس للرد بقوة، وإصدار أمرٍ تنفيذي باعتبار مواقع التواصل عرضة للمحاكمة، وليست محصنة.
مواقع التواصل الاجتماعي مثل «تويتر» و«فيسبوك» ونحوهما، كانت عبر سنواتٍ طوالٍ مرتعاً للدعاية الإرهابية العالمية، من كل الجماعات والتنظيمات ومن كل الدول وبكافة الاتجاهات، وقد صدقت مقارنة البيت الأبيض بين تغريدات ترمب وتغريدات خامنئي الإرهابية الصريحة التي لم يتعرض لها «تويتر» بأي تعديل.

مارك زوكربيرغ، مالك ومؤسس «فيسبوك» انحاز لموقع ترمب ضد «تويتر» وأكد خطأ «تويتر»؛ لأنه أقدمُ في هذا المجال وأكثر خبرة، ويعرف حدود تحركاته وكيف يحمي نفسه وموقعه.

الجدل بين مواقع التواصل الاجتماعي وشركات التقنية الحديثة، مثل شركة «أبل»، وبين الدولة، جدل مستمر منذ سنواتٍ، لم يبدأ مع الرئيس ترمب فقط ولا مع أميركا فحسب؛ بل هو جدل على مستوى العالم. ويلخصه السؤال: من المؤتمن على خصوصيات الناس؟ الدولة أم هذه المواقع؟ وهل يحق لهذه المواقع والشركات حماية الإرهابيين والقتلة ومعلوماتهم وإخفاؤها عن الدولة وأجهزتها؟ والقصة شهيرة قبل سنواتٍ بين شركة «أبل» والمؤسسات الأمنية الأميركية، حول حماية معلومات أحد الإرهابيين داخل أميركا.

سعت إدارة أوباما من قبل وفي 2014 لضبط هذه المواقع، وإخضاعها لمؤسسات الدولة، وهو ما ترفضه هذه المواقع، وتحلم بالانعتاق من كل قوانين الدول وفرض شروطها وتعزيز قوتها، بغض النظر عن الدول ومصالح الناس. وقد اجتمع أوباما حينها بستة من المديرين التنفيذيين لـ«فيسبوك» و«غوغل» وغيرهما. وقد سعى رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ديفيد كاميرون آنذاك لإقناع أوباما بإيجاد حل لهذا الجدل، وإخضاع مواقع التواصل لسيطرة الدولة، ورفض توفير البيئة الآمنة للإرهابيين والمجرمين، والتعاون مع الدولة، ولم ينجح أوباما في ذلك المسعى.

يخطئ كثيراً من يحسب أن هذا الجدل يدور بين من يدعم حرية الرأي ومن يرفضها، فالأمر ليس كذلك بأي حال؛ بل هو عمَّن يمتلك الحق في حماية خصوصيات الناس وفرض الأمن، هل هي الدولة ومؤسساتها، أم مواقع التواصل ومستثمروها؟ وهو جدل فلسفي وقانوني قبل أن يكون سياسياً، وسعي أي سياسي لحماية نفسه ومصالحه ضد هذه المواقع أمرٌ مفهومٌ؛ لكنه ليس الجدل الرئيسي، ولا موضع الخلاف الأصلي.

هناك دوافع مختلفة للبعض للدفاع عن «الأوبامية»، منها القناعة الآيديولوجية، ومنها التزين بمظهر المستقل، ومنها التأثر بالأوساط الأكاديمية التي يسيطر عليها اليسار، ومنها التأثر بالطروحات المعادية لدول الخليج دولياً وإقليمياً، كما جرى من قبل على مدى عقود من الزمن، فقد كان كثير من مواطني دول الخليج متأثرين بالدعايات الإقليمية والدولية المعادية لبلدانهم، فكان بعضهم يتبع اليسار والشيوعية، وبعضهم الطروحات القومية من ناصرية أو بعثية، ثم جاء فيما بعد من يتأثر بخطاب الإسلام السياسي وجماعاته، وهو أمر مستمر مع المدافعين عن «الأوبامية» بلا وعي منذ ظهورها.

الغالبية العظمى من هؤلاء تراجعوا عن غواياتهم السابقة، بعد تجاوز المراهقة واكتمال الرشد وازدياد العلم، وهو ما سيجري لاحقاً لأتباع «الأوبامية» المعاصرين، ولكنهم يحتاجون لوقتٍ -كسابقيهم- حتى يتبصروا مواضع أقدامهم، ويستعيدوا القدرة على التبصر. معركة ترمب مع «تويتر» معركة آنية، وبغض النظر عن نتيجتها كمثالٍ فهي لن تلغي الجدل القائم من قبل ومن بعد، ولكنها تجبر الجميع على إعادة فتح هذه القضية المهمة، وإبقاء التساؤلات حولها مفتوحة، والتفتيش عن أفضل الإجابات وأكثرها إحكاماً ومنفعة، وهذا أمرٌ لصالح البشرية ومستقبلها.
أخيراً، فالصراع بين «الدولة» و«مواقع التواصل» مستمر، ولن ينتهي قريباً. وهو صراع له أبعاد متشعبة، وحلوله تختلف بحسب كثير من المعطيات المتباينة.

* نقلا عن "الشرق الأوسط"

اثنين, 01/06/2020 - 10:21