الربيع الأمريكى

عبد المنعم سعيد

وزع الإعلام الأمريكى ومراكز البحوث الأمريكية تعبير «الربيع» على أحداث تاريخية كبرى جاءت من مركبات عناصر هيكلية وظرفية مرت بأمم ودول. كانت البداية «ربيع براغ» عام ١٩٦٨، وبالنسبة لنا كانت شهرة المفهوم مع ما سمى «الربيع العربى»، ولكن سبقه أنواع أخرى من الربيع الذى ارتبط أحيانا بالمكان، وأحيانا أخرى بالألوان، وأحيانا ثالثة بالأزهار البنفسج والياسمين، وفى مصر كان «اللوتس». كان الأمر متعجلا إلى الدرجة التى تجاهلت أن ما جرى فى عدة دول عربية فى مطلع العقد الماضى حدث فى الشتاء؛ وهذه المرة عندما حدثت أحداث مماثلة فى الولايات المتحدة فإنها جاءت مع بشائر الصيف. ولكنها فى كل الأحوال، وسواء كانت فى شمال أمريكا أو فى الشرق الأوسط أو شرق أوروبا، كانت تعبر عن «ظاهرة جماهيرية» كثيفة بمئات الألوف والملايين غاضبة أشعلها حادث عارض مثل «بوعزيزى» فى تونس، «خالد سعيد» فى مصر، وهذه المرة فى مينيابولس - مينسوتا- جورج فلويد الذى قتله رجل شرطة بينما أربعة آخرون، أحدهم من أصول آسيوية، يتفرجون على إنسان يلفظ أنفاسه الأخيرة عاجزا عن التنفس. ولكن الحادث العارض لم يكن أبدا القصة كلها، وإنما هو مجمع من القصص المركبة التى كثيرا ما جرى التعامل معها فيما يخص دولا وأمما أخرى بالكثير من الخفة التحليلية، والسخافة السياسية. كانت الرواية الأمريكية عن «ربيع» دول أخرى بسيطا قائما على أن شعوبا تريد «الديمقراطية» والحياة «الليبرالية» والنظام «الرأسمالى»، فى مواجهة سلطات لا تريد أيا من ذلك كله. الحقيقة لم تكن أبدا كذلك، وكثيرا ما انتهت إلى نهايات تتناقض مع كل التصورات الأمريكية؛ وبدت المصادر الأمريكية حائرة إزاءها فتذهب مذاهب عنصرية تارة، أو تتخلص من مصداقية التحليل بالحديث عن استثناءات تاريخية لشعوب بعينها استعصت على الحرية والتقدم.

«الربيع الأمريكى» الذى نراه هذه الأيام هو حالة انفجار سياسى، فجره حادث تكرر مرات خلال السنوات الأخيرة حيث يقوم رجل شرطة أبيض بقتل إنسان أسود اللون. ولكن الواقعة، كما هو الحال فى حالات أخرى، كانت مجرد المفجر للخروج الجماهيرى واسع النطاق، تكون فى العادة بدايته نبيلة فى استخدام «حق التظاهر السلمى» (فى مصر كان الهتاف «سلمية»!) من أجل تصحيح أوضاع بعينها فى مقدمتها ضمان العدالة للمقتول. ولكن الأحجام الجماهيرية الضخمة لمئات الألوف والملايين، لها آلياتها الخاصة، وفيها نوع من الميكانيكا المغرية فى سرعتها واتساع نطاقها فى ظل وسائل الإعلام الخاصة بالتواصل الاجتماعى بحيث تدفع قوى سياسية إلى استغلالها. فى مصر كانت جماعة الإخوان المسلمين من اليمين وجماعات ٦ إبريل والاشتراكيين الثوريين على اليسار هم من قفزوا على «الظاهرة الجماهيرية» كلها. فى أمريكا جاء الهجوم من اليمين ممثلا فى جماعات «فاشية» مختلفة الأنواع، ومن اليسار أيضا جاءت جماعات شيوعية وفوضوية متنوعة. ورغم هامشية هذه الجماعات على اليمين واليسار فإنها دائما الأكثر تنظيما، واستعدادا لفرض شعاراتها على الجمع الكثيف الغاضب الذى لا يلبث أن يفرط فى براءته فيتجه إلى العنف على الأسواق وأقسام الشرطة ودور العبادة واستهداف الآخر أيا كان لونه أو دينه.

ما هو أعمق من الظاهر فى أمريكا أن قضية العنصرية فى أمريكا لم تحل بعد، ولا يبدو أنها مثل الكثير من القضايا الكبرى للإنسانية تظل موضوعا للتفاعل السياسى السلمى أحيانا الذى أخذ أوباما إلى البيت الأبيض، والتفاعل العنيف الذى اغتال كنيدى ومارتن لوثر كينج ومالكولم إكس. الخلطة تصبح مشتعلة عندما يواكبها أحداث أخرى، كانت حرب فيتنام فى وقت، والآن فإنها أزمة الكورونا وما يصاحبها من بطالة تكون فى الأوقات الصعبة فى غير صالح الأمريكيين من أصول إفريقية. وحتى يكتمل مركب العنف فإن الاستقطاب السياسى يصل إلى حالة من الاحتقان التى تتعدى المسارات التقليدية للتفاعل السياسى مثل الانتخابات والمجالس التشريعية والفيدرالية ولا يجد الجمع الشعبى سوى الشارع، ومن بعده يكون الحريق. شلل المؤسسات فى أمريكا سوف يكون موضوعا للمساءلة الأمريكية فى انتخابات نوفمبر حيث سيكون على المراقب أن يلحظ تأثيرات محاولة الإطاحة بالرئيس ترامب من خلال الكونجرس، وما فعله ترامب منذ حملته الانتخابية الرئاسية الأولى، وما يفعله حاليا من أجل نجاح الحملة الثانية. خصومه لديهم أدوات من شخصيته وتاريخه وفشله فى إدارة أزمة الكورونا، ولكن مؤيديه لديهم «حزب الكنبة» الذى يرفض الفوضى والعنف، ويضع قيمة كبيرة على القيادة القوية فى أزمنة صعبة. قال ترامب: أنا الرئيس الأعلى للأمن والنظام!، هكذا سوف يكون شعاره فى المعركة المقبلة.

* نقلا عن "المصري اليوم"

اثنين, 08/06/2020 - 15:41