نحن وحصاد الأزمة

عبد المنعم سعيد

ستة شهور مضت منذ بداية أزمة فيروس الكورونا اعتبارا من شهر ديسمبر الماضى وحتى نهاية مايو المنصرم، وخلالها تراوحت الأنباء وتعددت حتى الأسماء من «كوفيد- ١٩» إلى «سار- ٢»، ولكن المقصود كان واحدا وأن هناك وحشا هائجا يسير فى الكرة الأرضية يصيب الملايين، ويقتل مئات الألوف، ويحدث شللا فى الاقتصاد العالمى يفوق ما حدث خلال الكساد العظيم فى ثلاثينيات القرن الماضى. وكأن كل ذلك ليس كافيا فإن المجتمع الدولى بات فى أسوأ حالاته، وبعد أن وقعت الصين والولايات المتحدة اتفاقا تجاريا فى ديسمبر الماضى، وساد الظن أن الحرب الباردة المدعاة سوف تصل إلى نهايتها مبكرا، أعادها الفيروس متأججة وصارخة. فى لحظات كثيرة بات الاسم العربى للواقعة هو الأكثر تعبيرا عن الواقع من كل الأسماء والمفاهيم المصاحبة الأخرى، فما أصبح «الجائحة» كانت تعنى فى قواميس اللغة «الهلاك» الذى يأتى بلا موعد ولا إنذار، يصيب ويجرح ويقتل ويبيد بلا فرصة حتى للحزن والعويل وأخذ الخاطر. نصف عام ولم ينته الأمر بعد أيام أو أسابيع وبالتأكيد الآن بعد شهور، وبات لازما استخلاص نتائج أو حصاد ما جرى منذ وفاة المريض «زيرو» حتى اكتملت الأرقام الكبرى التى نراها الآن.

صحيفة «النيويورك تايمز» الأمريكية نشرت فى الأول من يونيو مقالا يعطى حصاد الشهور الستة من خلال مقالات عشر عناوينها تلخص الأمر كله: أننا سوف نعيش مع الفيروس لفترة طويلة قادمة، وعلينا جميعا أن نرتدى الكمامة، أن البنية الأساسية الصحية الأمريكية (وربما فى ذلك معظم دول العالم) تحتاج إلى تحديث، أن التعامل مع الفيروس مكلف للغاية، أن هناك طريقا طويلا لكى نقطعه حتى نحصل على الاختبار الفعال، أننا لا نستطيع الاعتماد على «مناعة القطيع» لكى نكون أصحاء.

.. أن الفيروس ينتج أعراضا أكثر مما هو متوقع، أننا من الممكن القلق بشكل أقل من عدوى الأسطح، كما أننا نقلق أقل من «تحولات» الفيروس، أننا لا يمكننا الاعتماد على الطقس الدافئ لهزيمة الفيروس. وفى نفس اليوم نشر محمد العريان ومايكل سبنس مقالا فى دورية «الشؤون الخارجية» بعنوان «عدم المساواة العظيم أو The Great Unequalizer» يوضح كيف أن الوباء زاد من التفاوتات العظمى فى عالمنا من حيث الدخل والثروة والفرصة. وقبل ذلك بأيام فى ٢٦ مايو قام ستيفن والت فى دورية «السياسة الخارجية» بحصر الصفات المؤسسية التى جعلت معالجة الفيروس أحسن حالا، ولكن واحدا من أهم النتائج الخمس التى توصل إليها كان أن الاحتباس الحرارى قد تباطأ مع استمرار الأزمة العالمية.

فى مصر، وفيما أعلم، لم تصدر دراسة شاملة عن الحالة المصرية منذ منتصف فبراير حينما جرى الإعلان عن المريض «زيرو» حتى الآن، ورغم أن أعداد الإصابات والوفيات تصاعدت خلال الأسابيع الأخيرة فإن الأخذ فى الاعتبار بالحجم السكانى فى مصر وتعدد أقاليمها فإن النتائج بالمقارنة بالبلدان الأخرى ظلت معقولة ومقبولة إذا كان للوباء والوفاة من تسليم. وربما كانت النتيجة الهامة التى خرجت بها مصر من الأزمة هى أنه لا يوجد «نموذج» وحيد يمكن الاعتماد عليه، وإنما عليها أن تبنى نموذجها الخاص الذى يأخذ من هنا ومن هناك ومن منظمة الصحة العالمية ثم تقييم الوضع على ضوء الظروف المصرية واتخاذ القرارات الممكنة للتعامل مع الواقع. لم تجر مصر وراء كل خبر وكل محاولة وكل إعلان عن نتائج مبهرة أو نتائج مروعة، كان هناك تقييم واقعى للأمر والتعامل على أساسه من خلال خلية للأزمة بقيادة رئيس الوزراء جمعت تخصصات كثيرة. ولحسن الحظ أن مؤسسة الرئاسة بدأت فى الاستعانة بمستشارين للشؤون المالية والتخطيط العمرانى وأضيف لهما الدكتور عوض تاج الدين مستشارا للأمور الصحية فى وقته تماما. النتيجة كانت أن مصر أدارت الأزمة من الناحية الصحية دونما تفريط فى استمرار عملية التنمية، فحتى عندما تم تأجيل افتتاح العديد من المشروعات، فلم يكن ذلك يعنى توقفها، تباطأت السرعة، ولكن المسيرة لم تتوقف، وذلك فى حد ذاته إنجاز بدأ فى التسارع تدريجيا مع بداية الشهر الحالى. ورغم الضغوط الكبيرة على جهاز الدولة الذى كان عليه أن يتحمل الأعباء الكبرى للأزمة مع استمرار التنمية مع مواجهة أزمة السد فى إثيوبيا والتدخل التركى فى ليبيا، وكل ذلك فى بيئة إقليمية ودولية غير مستقرة فى آن واحد، فإنه نجح فى العموم فلم تحدث أزمة غذائية من أى نوع، ولا اختفى دواء من الأسواق، ولا توقفت الكهرباء ساعة، وحتى عندما تأزمت الأمور وبدأت المستشفيات فى الازدحام كانت هناك حلول كانت الأفضل من الكثيرين فى البلدان النامية. ما كان يحتاج الكثير من الدعم هو الإعلام، صحيح أن أرقاما يومية عن الجديد من المرضى والوفيات والمتعافين كان متوافرا بصورة يومية، ولكن إعلاما تفصيليا بالانتشار بين المحافظات والمراكز وحتى القرى كان سيعطى الكثير من المصداقية، وأكثر منها دروسا، ومعلومات أكثر حول انتشار المرض بين الذكور والإناث، والشرائح العمرية المختلفة، وعما إذا كانت هناك رابطة بين المرض من ناحية ودرجة الحرارة من ناحية أخرى، أو بينه وبين أنواع من الطعام والتدخين إلى آخر المعلومات التى تعطى «محتوى» طبى وعلمى يجذب الجماهير إلى الالتزام.

معلومة أعلنتها وزارة الصحة مؤخرا ذكرت فيها أن أقاليم مرسى مطروح والوادى الجديد والبحر الأحمر وسيناء كانت الأقل تلقيا للفيروس من المحافظات الأخرى خاصة كثيفة السكان فى القاهرة والجيزة والقليوبية والإسكندرية. هذه المعلومات تؤكد من ناحية سلامة خططنا التنموية، وتوجهاتنا المستقبلية من ناحية أخرى. فكما سبق أن أشرنا فى مقالات سابقة أن العمود الفقرى للبنية الأساسية المصرية فى الطاقة والطرق والإنفاق والمدن الجديدة كلها تنتشر «من النهر إلى البحر» ومن وادى النيل الضيق والمزدحم إلى مساحات مصر الشاسعة فى الصحراوات والبحار والخلجان. وإذا كان هناك من درس كبير لنا وللبشرية جمعاء هو أولا أن الفيروس هو إشارة إلى مواجهة الطبيعة للتوسعات الحضرية الإنسانية التى زادت عن حدها خلال العقود الأخيرة، وثانيا، ونتيجة ذلك، فإن دعم الاتجاه المشار إليه، وتسهيل انتقال البشر له سوف يجعل مصر أسعد حالا وأقل عرضة للأمراض المعدية. مثل ذلك يحتاج استثمارات طائلة لا تقدر عليها الدولة وحدها، وإنما ينطلق بها الاستثمارات الداخلية والخارجية من القطاع الخاص المصرى والعربى والأجنبى. وهذه قصة تحدثنا عنها كثيرا، وسوف نتحدث عنها فى المستقبل أكثر.

* نقلا عن "المصري اليوم"

أربعاء, 10/06/2020 - 16:49