صوت الرجولة

خالد الفاظل

سألني صديقي الذي يعمل بائعا للقماش والأحذية والعطور، هل أنت متفائل أم متشائم حيال ما يجري من أحداث في المباني المحيطة بساحة الحرية؟ بدا سؤاله متشعبا. كان صديقي لحظة السؤال متذمرا من السلطات التي أغلقت باب محله لمدة 24 ساعة لأنهم صادفوا عاملا لديه بلا كمامة، نزعها حتى يشرب الماء. صديقي خرج من جامعة نواكشوط رفقة دبلوم ليصانص في القانون. أثناء دراسته أعار محلا أسماه متجر السعادة كان قليل الزبناء. عندما تخرج فتح له محلا بلا عنوان قرب أشهر أعمدة عرفات. جئته بداية العام حتى يعلمني الخياطة. في طفولتي البعيدة كنت أحلم أن أكون مصمم أزياء، لطالما تابعت عروض الصيف والشتاء على قناة LBC الفضائية اللبنانية. كان معلمي يخيط مخلاة كبيرة يلبسها الرجال يقال لها:"چاية". استهلك الكثير من القماش لتفصيلها، جعل السروال يشبه الدلو مع فتحتين طرفيتين في الأسفل بحجم فتحات أنابيب الماء التي تدفن في الشوارع الفرعية. مكان الحزام صنع ممرا ضيقا ومتعرجا كالطرق الجبلية الوعرة ربما يكون أطول قامة من الرجل الذي سيلبسه، ذلك الممر سيكون معبرا لحزام يتدلى بشكل مزدوج، عندما تضرب به الأشياء يولد أصواتا يشبه وقعها ارتطام السياط بظهور الأحصنة التي تجر العربات. بداية حياتي حسبت ذلك الصوت هو صوت الرجولة! وأنني لكي أصبح رجلا لابد أن ارتدي سروالا يشبه المخلاة تتدلى منه السياط..

بعد أعوام عدت للسراويل الطويلة التي لا تترك الرياح تعبث بالسيقان. لكن مشكلتها الوحيدة أنك إذا ركضت بها أو دخلت بها في عراك فوضوي ستبتسم وتعيدك لماكينة الخياط. لكن مع اكتشاف سراويل حنتوش المستوردة من السعودية وجدت بديلا عصيا على التمزق لكن شكله كان مضادا للأناقة ومرهقا للقوام. لما رأيت سراويل المقاتلين اليمنيين الأشداء في تعز وعدن ورجال البشتون في جبال تورا بورا أدركت أن لا علاقة للرجولة بتصاميم السراويل فعدت إلى دگلسير والجينز وما تيسر من الموضة.

بعد رواج برنامج كلمات وأنغام، حسبت الرجولة بأن تكون لك دراية في المقامات الموسيقية التراثية وقادرا على تركيب مقطع شعري(گاف) قصير في جزء أقل من الدقيقة حتى يكون حضورك قويا في المجلس(جماعة). قلت أشعارا شعبية متباينة أحرقتها بعود كبريت واحد لما خسرتها وأنا ما زلت أخوض معركة الثانوية العامة. أدركت حينها أن الرجولة المصنوعة من الكلمات والأنغام لحظية وتنتهي غالبا مع "تفراگ جماعة". في مواسم الانتجاع بالبادية، ظننت صوت الرجولة في صوت ارتطام اللبن بقاع التاديت، أردت أن أكون حلابا محترفا وبوسعي عرض خدماتي في الليالي المطيرة والمظلمة التي يكون فيها المراح رطبا والشوك المبلل المختفي في الظلام مؤذيا للأقدام. لكنني أخفقت في تعلم حلب البقر، اكتفيت بمراقبة العجول في المراعي الخصيبة وبحلب الماعز وركوب الجمال. كنت ذات عام رديفا مع راكبين على جمل وسقطنا قرب غصن شائك في طريقنا إلى لعزيب. كنت من أبناء المدينة وذهبت إلى لعزيب من أجل أخذ دورة تكوينية مكثفة في الرجولة. كنا نسكن تحت الأشجار ونقضي معظم النهار في مساعدة الأبقار المتعبة على النهوض وجلب الماء على ظهور الحمير وجمع الأواني والأغطية التي تحملها العواصف وراء التلال الخضراء الشبيهة بالسهول المتموجة شمال العراق وتلك الصورة الخضراء المشرقة التي تظهر عند تشغيل الكمبيوتر. بعد أعوام أصبح أمهر الحلابة الذين عاصرتهم وكانوا يتفاخرون علي بتمتعهم بخصال الرجولة بمقاييس سكان البادية يشربون الألبان المحلية باردة وبلا رغوة ويلعبون لبلاي ستيشن، ويطبلون للأنظمة في مواقع التواصل الاجتماعي..

لما وصلت للعاصمة ظننت الرجولة تبدأ من محل الحلاقة وأخذ ساعة أو اثنتين من دروس تعلم السياقة قرب البحر والسهر حتى الصباح مع ثقافة عاطفية تتغذى على الأقمار الصناعية، وأن تكون لك علاقة ما بالأحياء الراقية مثل (F نور) مثلا وتتكلم الفرنسية بشكل متقطع في الأماكن العامة وأن تكثر من (Donc) حتى تنافس بها الحمد لله. شيئا فشيئا ذابت مصطلح الرجولة في التطبيقات المستجدة، وأصبح معيارها في العوالم الافتراضية في عدد المتابعين ومدى قدرتك على إثارة الضجيج وصناعة التنمر من الأشخاص والأراء المخالفة. على أرض الواقع، أصبح صوت الرجولة خافتا للغاية مثل أصوات السيارات التي هبطت لتوها من المصانع الأوروبية والأمريكية. ولم يعد الرجل العصامي والصادق رجلاً في عيون المجتمع حتى ولو كان يعمل بشرف كسائق أجرة في سيارة صوت ماكينتها قوي ويسمع من بعيد كصوت القطار. أصبح الرجل هو الذي يمتلك أرصدة متشعبة وفللا ولديه من النفوذ ما يجعله يتخطى رقاب الناس في الطوابير ويستطيع أن يخترق حظر التجوال في زمن كورونا ويزدري القانون كما يشاء. لم يعد الكذب مسبة وعارا، تجد الرجل (المحترم) يكذب في وضح النهار، وينافق ويسرق ويظلم ومع ذلك يبقى في أعين المجتمع، الرجل المناسب في المكان المناسب. المهم أن يحافظ على بعض قيم المجتمع الممجدة للبهرجة وتضخم الأنا والطغيان.

نسيت إخبار صديقي أنني ذهبت صباح اليوم لشراء الخبز، ووجدت اثنين من عمال المخبزة المجاورة من أصل ثلاثة لا يرتدون الكمامات، وكذلك أغلب الزبناء. وأن القانون لا يطبق على الجميع كما يبدو. وعلى سكان الضواحي احترام فارق لبرود مع سكان تفرغ زينة. وبخصوص سؤاله المتعلق بالتفاؤل والتشاؤم، أنا لست متشائما ولا يعني هذا أن السنوات القادمة أحلى. أنا متفائل لأن الاكتئاب مضر بالصحة والحياة يجب أن تستمر على كل حال. أظن أن بلدنا سيبعث على التفاؤل عندما يكون هناك رجال ونساء في النظام يقولون الحق في الوقت المناسب وبكل وضوح وقوة. لا أن يرموا تقاعسهم عن قول الحقيقة والوقوف في وجه الفساد كل مرة بداخل حقائب النظام السابق الذي لم يتغير فيه سوى غياب شخص واحد، شخص كانت على رؤوسهم الطير عندما كان يجلس بينهم، واكتفوا لعشرة أعوام بتلميعه. فصوت الرجولة هو قول الحقيقة في الوقت المناسب. دون خوف وطمع.

في نهاية المطاف أخبر صديقي بأن الحياة مجرد امتحان وعبور إلى الضفة الأخرى، عبور لا يخلو من المشقة والنكبات. إذا كنت سعيدا عليك أن تشكر الله، وإذا كنت تعيسا عليك أن تصبر وتكافح بعناد. البعض يعتقد بأن الشكر أسهل من الصبر، والحقيقة أن الشكر صعب أيضا. لأن الإنسان يميل غالبا إلى الطغيان والجحود عندما يغرق في النعم. صديقي تضرر عمله من حظر التجوال مثل الكثيرين من عمال القطاع الخاص. على الحكومة أن تساعدهم، أما نحن العاطلون على العمل، فبسبب حظر التجوال والإغلاق أصبح جلنا عاطلا حتى عن "البحث عن العمل".
 
شرح بعض المفردات:

ساحة الحرية : ساحة أنشئت  العام الماضي قرب أنقاض مجلس الشيوخ
التاديت : إناء خشبي يحلب فيه البقر
عزيز : الرئيس السابق وكان صديق الرئيس الحالي
غزواني : الرئيس الحالي وكان صديق الرئيس السابق
لبرود : كناية عن رغد العيش 
هنا صكوكو. الساعة 18:54 وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

أربعاء, 08/07/2020 - 23:28