من يوميات القرية (جلسة مع ابراهيم):

محمد محمود الصديق

ابراهيم بن محمود احد ابناء قريتنا، وحبيبُ طفولتنا، يُقيم على أهم مرفق من مرافق القرية، ويؤدي وظيفة من ضرورات عمرانها، وهي صناعة وتوفيرُ الخبز (المحلي).
يدُه البيضاء من الدقيق كبياض قلبه النقي وسريرتِه الطيبة، هي كذلك بَياضا على قومه ومجتمعِه تسامحا وبذلا . معروف بالجود والمروءة، تأخذ من خبزه ما تشاء وتدع منه ما تشاء وتقضيه متى تشاء، لا يسألك في أي مرحلة من هذه المراحل عما اخذت وعما تركت وعما قضَيت. عندما تَدفع إليه - مقابل الخبز- مبلغا ليس عنده صرفُه يَرُدّ عليك المبلغ ويعطيك الخبز حتى يتيسر لك المبلغ المساوي، وأنت في جميع الأحوال عند القضاء هو حسيبُ نفسك في تحديد الكمية التي استَهلكتَها والعددِ الذي تريد قضاءه من الخبز خلال الفترة.
مِن أحلى يوميات القرية - في ما يُتاح من سوانحِ زيارتها - تبادلُ الزيارات مع ابراهيم، أزورُه صباحا في مخبزه الذي يدخل إليه الساعة الرابعة ليلا، ولا يَخرج منه إلا بعد الضحى، يلقاني بوجهه الطليق، وحديثِه الشيق، يحرك مَجمرته فيُزيح رمادَها ويُعيد جذوتها، ثم يُلقي عليها (برّادا) عَتيقا، وتظل يداه تتردد بين الفُرن يُقلِّب خبزَه، وبين البرّادِ يراقب نضجَه، حتى يناولك كأسا مصنوعة على جيماتها الثلاثة، وخبزةً ساخنة شاهدتَ مراحلَ نُضجها، وصُنعت على عينيك من حين تخَمّرها ثم تخليطِها وخَبزِها، فَشَيِّها وتقليبِها داخل الفرن.. إلى حين نضجها وتقديمِها اليك غَضة طرية.
وأثناء كل هذا يُفضي إلك ابراهيم بحديثه الحُلو الذي يقدِّم فيه خلاصةً عما دار في القرية ومحيطِها من أحداث صغار أو عظام خلال العام ؛ تقريرٌ مبسّط بأسلوب سهل شيق، لا يكاد يُغادر صغيرة ولا كبيرة من أمر القرية والقبيلةِ ومحيطِهما إلا أتى عليه، لا يَقتصر فيه ابراهيم على مجرد الحكاية والسرد، وإنما يتدخل أحيانا فيُعقّب على الحدَث بحُكم (قِيمِيٍ) أو (حُقوقي) يمثل ناحيةَ الصواب - من وجهة نظره - في القضية المعروضة.
في مرة من المرات قدّم إلي خبزة ساخنة جدا، ففضلت عليها أخرى باردة، فتعجب من ذلك، فقلت له إن الناس بفطرتهم طبائعُ وأغراض فأنا أفضل الخبزَ الفاتِر على الخبز الساخن ، وهذا يدلك على أنه لا بد لكل إنسان من خُلق وطبيعةٍ خاصة ستختلف معه إذا لم تٌراعها.
 فتقبل ذلك واستفاض هو من ناحيته في شرح هذه القاعدة والتمثيلِ لها.
فتحيةَ احترام وحب أخي ابراهيم، وإلى لقاء آخر إن شاء الله في ظل مكتبك ومعملك الكريم، في موسم خريف قادم.

جمعة, 25/09/2020 - 11:01