شهادة في حق رجل من بناة الوطن

محمد ولد أحظانا

أكتب هذه السطور فجر يوم الجمعة 16 من شهر أكتوبر 2020م.
 في مثل هذا الصباح، من يوم الجمعة، وفي مثل هذا التاريخ  16 أكتوبر من سنة 1998م؛
 رحل رمز وطني بارز ، جراء حادث سير مؤسف للغاية، على طريق الأمل، قبالة قرية تيفكين، على بعد عشرين كيلومترا غربي بوتلميت. 
إنه المرحوم الفقيد، والوزير العقيد  أحمد ولد منيه.
استعيد ذكراه اليوم، خروجا على مألوف عادة الموريتانيين في سطوة الذاكرة الحسية، حيث ينسون أي شيء لا يملأ عيونهم أو يصم آذانهم، و وفاء لخصال عرفه بها غيري و عرفتها شخصيا في هذا الرجل، من خلال تجارب مشرقة شاهدتها فيه، أو حدثني بها أشخاص ثقات..
 لقد عرفت هذا الرجل كما عرفه آخرون كثر، فلاحظت أنه يتصف بصفات الرجال الأفذاذ، والفذ هو المتصف بما يميزه عن غيره بخصائص إيجابية لايتصفون بها، ومنه تفرد المصلي بالصلاة فذا.

الشهادة الأولى
أول وخير شهادة أشهد بها لهذا الراحل الفذ هي كثرة النوافل و التهجد فذا، آناء الليل وأطراف النهار ، مع المواظبة الدائبة على قراءة القرآن سرا وجهرا، سواء ضمه  مجلس أوعمل، أو انفرد في الصلاة وخارجها، فترى الرجل يحرك شفتيه بالذكر الحكيم دائما متحينا أية فرصة لقراءته جهرا. ومن ملامحه الوضاءة تطفح ألفة القرآن، ومن عينيه يشع ألق الاطمئنان إليه، والإيمان بما جاء به. 
فلا أحد يلقى المرحوم أحمد ولد منيه لقاء مطولا ولا قصيرا إلا ولاحظ هذه الملازمة  المثابرة لكتاب الله. 
إنه رجل يخشى ربه حقا ويتقيه بشواهد السلوك وفحوى الخطاب. ولا أزكي على الله أحدا.

الشهادة الثانية، 
أن المرحوم أحمد ولد منيه، فيما أراني الله، متصف بالحكمة ورجاحة العقل، والأدب الجم، والإنصاف، والاعتدال والرزانة، وحسن الإنصات، وقوة الذاكرة، وهو بعيد من اللغو في القول، لايتكلم إلا عند الاقتضاء، موزون العبارة، صادق اللهجة، فطن؛ بل لماح، على وقار سابغ.
 مجلسه حرم، كريم اليد، رحيم بالضعفاء، وفي لأصدقائه، عادل مع مرؤوسيه، معني بأهل الحاجات، متعاطف معهم، خدوم لهم. غير متعجل في أحكامه، صارم في أداء واجباته، ينزل الناس منازلهم، ويرفع أهل العلم والمعرفة في مجلسه ومن وراء حجاب، يبذل أريحية ويواسي فضلا،.
 وكان الى كل ذلك رجلا سموحا، وموردا عذبا للجميع.

الشهادة الثالثة،
أن أداء الراحل أحمد ولد منيه المتميز لصالح موريتانيا لم يكن للتظاهر والمباهاة؛ بل كان عنده من المضنون به على غير أهله، رغم محورية وأهمية دوره في تاريخ البلد، فقد عايش مرحلة حاسمة وخطيرة للغاية على كيان البلد، حيث ساهم في إخراج وطنه من أزمات كبرى دون ضجيج أو رغبة في الذكر، أو انتظار للثناء. 
 كان من أهم ذلك وأخطره تاريخيا إقناع اللجنة العسكرية بالعدول عن حرب موسعة مع دولة جارة، بعد أن كان الرأي السائد مغايرا لذلك.
كما أنقذ البلد من أزمة داخلية مصيرية أخرى في مطلع التسعينات أثناء الانتخابات الرئاسية.

الشهادة الرابعة
أنني كنت شاهدا على إنقاذ المرحوم أحمد ولد منيه لعدد كبير من التعاونيات الأهلية والأسر الفقيرة التي يعيلها مسفرون عائدون من السينغال في منطقة الركيز، بعد أن كاد بعض النافذين يعصف بمصدر عيشهم الوحيد. رحمه الله بما ترطب من أكبادهم بسببه

لقد كان المغفور له أحمد ولد منيه رمزا وطنيا بارزا، وسياسيا محترما للغاية، وقائدا عسكريا وإداريا محنكا، ونموذجا أصيلا للشخصية الموريتانية المتكاملة.
وأذ ذهب، ذهب الى ربه راضيا مرضيا.

تغمد الله الراحل أحمد ولد منيه بواسع رحماته ونور قبره بقراءة القرآن وتقبل عبادته وأحسانه للمسلمين،، وأولاه خير أعماله، ووفق عائلته الكريمة أهل منيه لتقفي خطواته السديدة، وهم لذلك مظنة وأهل.

تلك -إخوتي-. نفثة وفاء في حق رجل نذر نفسه  لخدمة الوطن والقيم السامية النبيلة والأخلاق العالية، بعد أن أقام في الدنيا محمودا ورحل عنها محمودا، في مثل هذا الصباح، في مثل هذا اليوم، في مثل هذا الشهر، منذ اثنتين وعشرين سنة.

سبت, 17/10/2020 - 13:02