الشعر والتاريخ بين التلاقي والتنافر(1)

محمد الأمين حمادي

أتناول في هذه المقال العلاقة الوطيدة القائمة بين الشعر والتاريخ. ولن أتعرض هنا للتعريف بهاذين الفنين لأن ذلك قد يقودنا إلى نقاشات مطولة تبعدنا عن الموضوع الذي نتناوله.

لكنني أرى ضرورة طرح سؤال وجيه في نظري وهو أي إشكال تطرحه العلاقة بين التاريخ والشعر وهل ثمة مشكل أصلا وأين أوجه التكامل والتلاقي بين المجالين أو التضاد أو التنافر بينهما.

لا شك أن العلاقة بين الشعر والتاريخ قد تثير إشكالات كثيرة تعرض لها المهتمون بدراسة الشعر والتاريخ. ولعل من أسباب تلك الإشكالات الأهمية التي يكتسيها الشعر العربي في الثقافة العرية الإسلامية وفي الدراسات في العلوم الاجتماعية والإنسانية.

ولعل مما يدل على أهمية الشعر عند العرب ما هو معروف من اهتمامهم بهذه الفن الإنساني الجميل الذي يسبي القلوب والعقول مع ما يمتاز به من خصائص تسهل حفظه واستظهاره. وقد كانت العرب قبل ظهور الإسلام تستبشر بظهور الشعراء فأيما قبيلة ظهر فيها شاعر كان ذلك مدعاة للاحتفال والاحتفاء.

ولا شك أن مرد هذا الاهتمام بالشعر والشعراء في المجتمع العربي قبل الإسلام، إضافة إلى سماته الجمالية التي تشد السامع وتحرك مشاعره أو تلهب حماسه، تعود لأسباب عملية فالشعر عندهم لم يكن مجرد كلام ذا معنى موزون مقفى بل كانوا يعتبرونه بمثابة الديوان الذي تستودع فيه الاحداث والوقائع   أو السجل الموثق الذي يحفظ فيه أدبهم وتاريخهم وأنسابهم وقد شاع في الناس قولهم الشعر ديوان العرب.

 ومما يؤثر من أقوال تدل على أهمية الشعر عند العرب تتجاوز الجانب الجمالي في هذا الفن ما روي عن عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قوله: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه" وما يروى من أن ابن عباس كان لا يفسر آية من كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، إلا ونزع فيها بيتًا من الشعر، وأنه كان يقول: إذا أعياكم تفسير آية من كتاب الله فاطلبوه في الشعر، فإنه ديوان العرب، به حفظت الأنساب، وعرفت المآثر، ومنه تعلمت اللغة، وهو حجة فيما أشكل من غريب كتاب الله، وغريب حديث رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وغريب حديث صحابته والتابعين.
 ويروى عن معاوية رضى الله أنه كان يقول: يجب على الرجل تأديب ولده، والشعر أعلى مراتب الأدب وقال: اجعلوا الشعر أكبر همكم، وأكثر دأبكم، فلقد رأيتني ليلة الهرير بصفين وقد أتيت بفرس أغر محجل بعيد البطن من الأرض، وأنا أريد الهرب لشدة البلوى فما حملني على الإقامة إلا أبيات عمرو بن الإطنابة:

أبت لي همتي وأبى بلائي   وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وإقحامي على المكروه نفسي   وضربي هامة البطل المشيح

وقولي كلما جشأت وجاش      مكانك تحمدي أو تستريحي

لأدفع عن مآثر صالحات       وأحمي بعد عن عرض صحيح

ولا أدل على اهتمام العرب بالشعر وفضله أن به ثبت إعجاز القرآن عندهم، فقد كان الشعر ذروة بلاغتهم وفصاحتهم، ولما تبينت لهم بلاغة القرآن قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه شاعر لأن الشعر كان أبلغ القول وأفصحه وأجوده.

ويتفق المهتمون بالشعر العربي على اعتباره مصدرًا خصبًا من مصادر التاريخ لما اشتمل عليه من الوقائع والأحداث وما يبرز من عقل وفكر وأسلوب حياة لدى العرب وعلاقتهم ببيئتهم وبغيرهم من الأمم كالفرس والروم بل يمكننا من خلال الشعر الجاهلي أن نستوضح بعض أسباب الصراعات والحروب التي وقعت بين العرب بعد الإسلام. عدا عن ذلك فإن الشعر العربي طافح بالصور التي تبرز المنظومة الأخلاقية عند العرب وفضائلهم وشيمهم، كالشجاعة والاقدام والمروءة والشهامة والوفاء والكرم وهلم جرا.

وبناء عليه يمكننا أن نتابع الرأي الذي يقول إن الشعر العربي: من المصادر المهمة في التاريخ العربي القديم، لأنه يشتمل على ثروة أدبية قيمة، قد لا نجد لها مثيلا في كتب التاريخ، وإن ما جاء به من معطيات تاريخية ، أكثر مما جاء في كتب التاريخ، بل نستطيع أن نذهب بعيدًا، فنقول إن كثيرًا من الأخبار ماتت لموت الشعر الذي قيل في مناسبتها أو لأنها لم يقل فيها شعر أصلا، في حين أن أخبارًا بقيت حية  لأن ما قيل فيها من شعر كان سببًا في بقائها، ومن ثم فقد أصبح الشعر سببًا في تخليد الأخبار، لسهولة حفظه، ولاضطرار رواته إلى قص المناسبة التي قيل فيها.

ولكم أن تتصوروا كيف لنا أن نعرف شيئا عن الحارث ابن عوف وهرم ابن سنان لولا أن زهيرا مدحهما في معلقته الشهيرة التي مطلعها :  أمن أم أوفى دمنة لم تكلم بحومانة الدراج فالمتثلم

حيث قال فيهما :     تداركتما عبسا وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم

ولعل من دلائل غنى الشعر العربي بالمعطيات التاريخية أن هذا البيت لوحده يحيل إلى جملة من الوقائع والمعلومات التي لولاه لربما لم نعرف عنها شيئا.

أما المنهج التاريخي فهو المنهج المتبع لإعادة بناء الأحداث فهو يساعد في إثبات الأحداث التاريخية علميا ثم إعادة ترتيبها وفق نظام علمي. ومن سمات الاحداث التي يدرسها التاريخ أنها مضت وأنها من فعل الانسان. ومن الجدير بالذكر هنا الإشارة إلى أنه من غير المقبول من وجهة نظر علمية إطلاق صفة التاريخية على بعض الاحداث دون البعض الأخر فكل حدث مضى فهو تاريخي أيا كانت حقيقته. ويحق لنا أن نطرح السؤال التالي: كيف يمكننا دراسة حدث وقع بالفعل لكنه مضى؟

يتواصل...

جمعة, 11/06/2021 - 10:05