صراع الإرادات في تونس.. الشعبوية التي ستحرق ثورة الياسمين

 يحيى عالم

عرفت تونس تجربة تحديث هي الأولى بين تجارب التحديث في العالم العربي، حيث شغلت الدولة الوطنية الأداة المركزية في التحديث السياسي والاجتماعي والثقافي عقب الاستقلال، ثم فيما بعد مع صيرورة الانتقال الديمقراطي عقب الثورة التي برزت فيها توافقات وطنية بين القوى الرئيسية في المجتمع، لصياغة معالم نظام سياسي يرسي دعائم التعددية والديمقراطية.

لقد شكلت -في الواقع- أدوات الثورة المضادة في المشهد السياسي التونسي الأرضية الخصبة لبروز نجم خطاب شعبوي استثار عواطف الجمهور الغاضب من مختلف القوى السياسية الوطنية، للوصول إلى السلطة بغية تحقيق أهداف تناقض جذريا أفق الحرية والديمقراطية وتحقيق العدالة الذي ولد من رحم الثورة

لكن عوامل عدة تدخلت لإجهاض مرحلة بناء النظام السياسي الجديد، منها ما هو متعلق بالعامل الخارجي وتأثيره السلبي على وتيرة الانتقال، والحيلولة دون استكمال مسار بناء المؤسسات التي تضطلع بمهمة ملء الفراغ المؤسساتي، كما هو الحال مع المحكمة الدستورية وقانون الانتخابات، مما يحمي الدولة والمجتمع من عودة النزعات السلطوية، أما العوامل الذاتية فتتصل بشكل أو بآخر بالنخبة الوطنية واتساع الخرق على الراقع فيما بينها من جهة، ومن جهة أخرى بينها وبين المجتمع الذي ينتظر حلولا عاجلة لمشكلاته الاجتماعية، أكثر مما تهمه تعقيدات لحظات المخاض السياسي؛ ومن هذا السياق المتشابك بين العوامل الذاتية والموضوعية الخاصة بالمشهد السياسي التونسي ولد الخطاب الشعبوي، منذرا بانسداد الأفق السياسي الوطني التونسي.

هل يمكن لشعبوية الخطاب السياسي الذي يستند إليه الرئيس التونسي أن تنجح في حل المشكلات المركبة التي تعرفها تونس بعد الثورة؟ أم أن الشعبوية وما تشتغل به من ميكانيزمات تشكل تهديدا للدولة والمجتمع معا؟ وهل تمكن ثقافة الحرية -التي افتكها الشعب التونسي بثورة بهيجة ألهمت باقي الشعوب في نضالها ضد الاستبداد- من صد الانقلاب بعد تجلي الإخفاق في تلبية الطلب الاجتماعي المتزايد والانشغال باحتكار السلطة؟

لقد شكلت -في الواقع- أدوات الثورة المضادة في المشهد السياسي التونسي الأرضية الخصبة لبروز نجم خطاب شعبوي استثار عواطف الجمهور الغاضب من مختلف القوى السياسية الوطنية، للوصول إلى السلطة بغية تحقيق أهداف تناقض جذريا أفق الحرية والديمقراطية وتحقيق العدالة الذي ولد من رحم الثورة، وعلى الرغم من أهمية التوافق الوطني الذي سارت على منواله النخبة والقوى السياسية الوطنية، فإن التردد الذي اتسم به السلوك السياسي للقوى الرئيسية في المشهد التونسي أسهم بشكل غير مباشر في الإضرار بالديمقراطية الوليدة.

يشكل الاستناد إلى الخطاب الأخلاقي حين الصراع على السلطة والنزوع المفرط إلى صياغة توافقات هشة إضرارا بالديمقراطية الناشئة، لكن في الآن ذاته يشكل الانزياح إلى حكم الفرد وإلغاء المؤسسات -على هشاشتها- مرورا سريعا إلى ترسيخ السلطوية والاستبداد وتوطين الدكتاتورية، مما يعني أن إفشال الانقلاب بعد أن اكتملت معالمه هو نجاح لتونس برمتها وإنقاذ للدولة والمجتمع من القفز إلى وراء الوراء، أي من الوقوع في حالة اللادولة، إذ المشكلة الآن في الوضع التونسي ليست مجرد خلاف سياسي، أو ارتفاع للطلب الاجتماعي وعدم الإنجاز وغياب التنمية، مع التأكيد على أهمية هذه الجوانب التي يندر أن تتحقق في ظل غياب الديمقراطية، لكن المجرب تاريخيا أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وعادة ما تعزف الأنظمة السلطوية على رغبة الجموع ومطالبهم العادلة، لكن جينات الدكتاتوريات لا تحمل حلولا بمقدار ما تحمل من أزمات، فهي تتوسل بالمطالب الشعبية وتصرفها لمجرى يصب في خدمة أهدافها المبطنة.

لقد كان قيس سعيد معوقا لكل المداخل الممكنة لتجاوز حالة الانسداد التي عرفتها تونس منذ توليه الرئاسة، إذ إن اغلب الاختيارات التي أفشلت مسار البناء المؤسساتي في السابق كانت صادرة عنه؛ ويمكن أن نرصد ذلك ابتداء من تعيينه لرؤساء الحكومات إلى تعطيل قيام المحكمة الدستورية. وتعطيل تشكيل المحكمة الدستورية تكمن أهميته في الرغبة الكامنة لديه في الاستفراد بالسلطة وتركيزها في يد واحدة، وهو ما يناقض طبيعة المراحل الانتقالية التي تتم بالحوار لا القوة، ومن خلال الدستور والقوانين المنظمة لسير المؤسسات وعملها، لا بهوى الأفراد وإرادتهم، وكلما حادت السلطة عن الخضوع للرقابة إلا اتسمت بالشطط، وأنتجت المهالك للدولة والمجتمع على المديين المتوسط والبعيد، ولو ظهرت في مراحلها الأولى بمظهر المنقذ والمخلص، لكن عقلنة الممارسة السياسية وتقييد السلطة بالقانون والرقابة الإعلامية والمجتمعية، هو ما يحقق الاستقرار والتنمية المجتمعية، والشعبوية نقيض العقلنة والمؤسسات والقانون.

إن المتابع للأحداث السياسية بتونس سيخلص إلى أن الانقلاب الحالي قد عصف بمنجز تونس في حقبتين: أي منجز حقبة التحديث لسياق الدولة الوطنية في مرحلة ما بعد الاستقلال، ومنجزها التراكمي في الانتقال الديمقراطي عقب ثورة الياسمين، الذي كانت تنهج فيه القوى السياسية التونسية نهجا توافقيا لتحديث النظام السياسي وإضفاء شرعية سياسية ديمقراطية على ممارس السلطة، من خلال إقرار نظام قائم على التوازن بين المؤسسات التي تقتسم السلطة وتمنع احتكارها في يد واحدة، في استحضار لتاريخ الاستبداد والسلطوية التي أنتجت مظالم لا حصر لها.

من خلال تصفحنا للتاريخ، نجد أن لحظات التوتر والأزمات الاجتماعية والسياسية كانت على الدوام منذرة بميلاد خطاب شعبوي، يتوسل بآليات الديمقراطية للوصول إلى السلطة، ويستثمر في البنى والمؤسسات التي أفرزتها الديمقراطية، ومعها آمال وتطلعات الشعب في جني ثمرات الثورة وانعكاسها على معيشه اليومي، كما يتوسل بأفق الحرية الذي تفتحه الديمقراطية، لكنه في الجوهر يتحين تفكيك كل منجزات التحديث، وفي السياق التونسي سواء كانت مؤسسات الدولة التي تم توطينها عقب الاستقلال أو بطبيعة النظام السياسي الديمقراطي الذي كان في لحظة مخاض الولادة بعد الثورة.

إنه مما يتم جرفه والانقلاب عليه مع هذا النموذج لتغذية النزعة الشمولية، هي الحرية ذاتها، فالحرية التي تكون مطية للوصول إلى السلطة تنقلب إلى ضدها، ولا حرية خارج النموذج الديمقراطي في الزمن الحديث، على الرغم مما يحمله النظام الديمقراطي من أزمات، كما أن مسارات الشعوب في تحديث نظمها السياسية والاجتماعية وعقلنة وتقييد السلطة وشؤون الحكم، تؤكد أن مآسي الحرية مع صبغة حكم الفرد المطلق الصلاحيات، لا حصر لها، فمناخ الحرية يصبح عديما لا يردد إلا ما عبّر عنه الزعماء، وفق ما يمكن تقديمه في العبارة الآتية "أنا الدولة والدولة أنا"، ويمكن الإشارة إلى التجربة التونسية في لحظتها الراهنة إلى التضييق المتعدد الأوجه على الحريات السياسية والفكرية، بمنع نخب سياسية معارضة للانقلاب من السفر، واعتقال نواب آخرين وتقديمهم لمحاكمات عسكرية، وما يثير السخرية ويبرز حجم المأساة التي يتعرض لها مناخ الحرية ويستدعي الانتباه والحذر إصدار بطاقة جلب في حق الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي وسحب جوازه الدبلوماسي، والحقيقة أن منصف المرزوقي -في واقعنا العربي الراهن- لا يمثل تونس وحسب، وإنما يمثل أبرز الضمائر المهجوسة بمشكلات أمتها السياسية والاجتماعية والحقوقية، مما يجعل مثل هذا القرار تعبيرا عن طبيعة السلطة القائمة في تونس عقب الانقلاب، وما يمكن أن ينتج عنها من ممارسات قد تؤدي إلى إغراق السفينة برمتها، لا إنقاذها كما ادعت ذلك.

لعل الانقلاب لا يهم هدم المؤسسات وحسب، وإنما يتجاوز ذلك لينقلب على الحرية ذاتها وآليات الديمقراطية التي توسل بها، باحتكار السلطة من جهة، والعودة إلى مرحلة ما قبل الدولة، حيث تصير الكلمة الفصل لما سمي اللجان الشعبية ذات الأصول الفوضوية في التفكير السياسي، التي تحمل في طياتها نزعة تدميرية للمؤسسات والدولة، وتمنح الحاكم الفرد سلطة مطلقة لا تخضع لآليات الرقابة والمحاسبة مع الادعاء بالديمقراطية القاعدية.

هذا النزوع لا يعتمد التعددية نهجا في بناء النظام السياسي أو تدبير الاختلاف في المجتمع، مما يهدد التوافقات السياسية والمجتمعية وينذر بإيقاع جروح وندوب في وعي النخبة والمجتمع معا، وذلك مقدمة لانقسام مجتمعي حاد قد ظهرت معالمه في أكثر من خطاب لرئيس الجمهورية ومساعديه وداعميه. والواقع أنه لا يفصل المجتمع أو الدولة عن الوقوع في العنف إلا بادرة إطلاقه وكذلك تعقّل القوى السياسية والمجتمعية، وطبيعة المجتمع التونسي الذي ينزع إلى السلم الأهلي.

إن تونس التي أفرزت مجددين وأعلاما في الفكر والسياسة في الزمن الحديث والمعاصر، منذ ابن أبي الضياف وخير الدين التونسي والطاهر الحداد والطاهر بن عاشور، وغيرهم من رموز فكرية وسياسية ذات تأثير متجاوز للحدود القُطرية، هي أكبر من حكم الفرد والوقوع في شراك الانفعال بخطاب شعبوي يعمق الأزمة أكثر مما يسهم في حلها، ويستثير العواطف دون العقل، بل إن مسارات الانقلاب لا يمكن رصدها على المستوى السياسي والمجتمعي وحسب، وإنما قبل ذلك حدثت انقلابات في ثنايا الخطاب نفسه للرئيس التونسي، إذ إن جزءا من الشرعية الأخلاقية لخطابه ومواقفه السياسية كانت مستمدة من مواقف راديكالية ذات علاقة بالثورة وفلسطين وغيرها، ليتبخر كل ذلك فيما بعد، بل كان ظهوره في الدفاع عن الاستعمار الفرنسي باعتباره حماية وليس استعمارا بالمفهوم التقليدي للمصطلح كان تعبيرا واضحا عن طبيعة الدور الذي سيضطلع به قيس سعيد ومحيطه لإنهاء مسار الانتقال الديمقراطي، وهو دور لم يضطلع به أحد من الرئيسين السابقين في السياق الثورة بتونس -أي كل من المنصف المرزوقي والباجي قايد السبسي- إذ حافظا معا على قدر من المناورة والرفض للتدخل الأجنبي في الشأن الداخلي التونسي.

ختاما:

لعل الخلاصة الواضحة التي أفرزها الانقلاب في تونس، هي ما يمكن أن يحمله حكم الفرد مطلق الصلاحيات على الدولة والمجتمع معا، إذ يشكل إلغاء المؤسسات واحتكار السلطات والسعي إلى تطويع القضاء بعد أن رفض ذلك، خطرا على الدولة مما يوقعها في التفكك، وتجربة حكم القذافي في ليبيا غير بعيدة عن تونس للعبرة، كما أن حكم الفرد خطر على المجتمع، لا سيما إن توسل بخطاب تحريضي يرسخ العداء في المجتمع بين مختلف مكوناته وأطيافه، مما ينذر باحتراب مجتمعي إذا كبرت كرة الثلج وانفرط عقد التوافق المجتمعي على السلم. وفي سياق الخطاب الشعبوي، تكون الأزمة الاجتماعية أكثر تفاقما وارتفاعا لانعكاسها المباشر على الاقتصاد الذي يفقد الثقة في وضع لا مستقر، ومن ثم فإنه لا تنمية مجتمعية بدون استقرار سياسي، ولا استقرار سياسي من دون العودة للديمقراطية، التي ينبغي الاستثمار في مناخ الحرية الذي خلقته الثورة لاستعادتها، ومنه نخلص إلى أن الشعب التونسي تشوق إلى الحرية ونالها، ويستحيل أن يفرط فيها ولو بعد حين، وإلا فإن الشعبوية ستحرق أزهار ثورة الياسمين وتعلن تفكيك الدولة ومعها شتاء طويل، كباقي سنوات الاستبداد الباردة. 

المصدر : الجزيرة نت

اثنين, 27/12/2021 - 15:13