لنحذر شظايا حرب أوكرانيا في الساحل!

الهيبه الشيخ سيداتي

"معهم أشخاص من ذوي البشرة البيضاء، عيونهم زرقاء، وشعر رؤوسهم أشقر. لكن ملامحهم ولغتهم ليست لغة البيض الذين عهدناهم في هذه المنطقة".

هكذا وصف لي ستيني بدوي حاد الفطنة عبر الهاتف قبل يومين انطباعاته عن مرافقين لوحدة من الجيش المالي قامت بعملية تمشيط حول آبار ارتوازية تقع داخل الأراضي المالية غير بعيد من الأراضي الموريتانية، وهي آبار اعتاد المنمون الموريتانيون كل عام الانتجاع حولها خلال هذه الفترة من السنة. وقد راح ضحية هذه العملية أزيد من عشرة موريتانيين حسب روايات الأهالي. 

يضيف محدثي المسمى عبدات "إنهم أكثر عنفا من النصارى التي اعتدنا عليهم في هذه المنطقة. هؤلاء لا يبتسمون، لا ينطقون سوى ألفاظ قليلة وغير واضحة، تشي نبرتها بالقسوة والعدوانية. لم أفهم أيا من كلمات ذلك المسلح. لكن الأفعال التي تلتها جعلتني أتمنى لو ظل صامتا".  بهذا الطريقة وصف محدثي عبدات، مظهر وسلوك عناصر "فاغنر" الروسية الذين يرافقون الجيش المالي خلال دورياته شمال البلاد.

هو وصف عفوي جدا. لكنه ينم عن عمق ودقة ملاحظة لما طرأ وما يُتوقع أن يطرأ. فأهل تلك الأرض شعروا فعلا بانعكاسات غضب الروس وفقدانهم السيطرة على أعصابهم، ودخولهم في حالة أشبه بالهستيريا.

ذكرني اتصاله، وطبيعة حديثه، بمقال كتبته قبل عشر سنوات، ونشر على موقع مركز 4S، رصدت فيه من خلال اتصال مماثل مع أحد الأهالي كيف استشعر - مستبقا معظم الدوائر الرسمية الإقليمية والدولية - قرب حصول انهيار أمني في الشمال المالي بسبب ارتدادات الوضع في ليبيا. ما زلت أتذكر أوصافه العفوية العميقة حين رصد أن المسلحين الذين أوقفوه وسلبوه بعض ممتلكاته ليسوا مثل المسلحين الذين ألف وجودهم في المنطقة، فهؤلاء حسب تعبيره في تلك الفترة "لا يطلقون التكبيرات، ولحاهم ليست كثة، وثيابهم ليست قصيرة".
 
لماذا يهتم الروس بالشمال المالي؟
 بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتصفية ما عرف بالاستعمار السياسي المباشر، أصبحت الجغرافيا الاقتصادية هي المفتاح الأبرز لفهم الصرعات الدولية، والدافع الخفي لتحديد خارطة مناطق النزاعات عبر العالم. من هذا المنطلق لا يمكن فهم الاهتمام الروسي بالشمال المالي بمعزل عن مشروع تزويد أوربا بالغاز النيجيري الذي أعلن عنه 2016، ودخل مرحلة توقيع الاتفاقيات منذ 2018، وهو أكبر مشروع للبنى التحتية في القارة الإفريقية بخط أنابيب يمتد لأكثر من 5600 كلم، ويمر عبر 11دولة.  

هذا المشروع الضخم لا يعتبر فقط بديلا مناسبا لخط تزويد أوربا بالغاز الجزائري (الحليف التقليدي لروسيا في المنطقة)، والذي توقف عمليا بسبب الأزمة المغربية الجزائرية الأخيرة، بل يشكل، فضلا عن ذلك، منافسا جديا محتملا للغاز الروسي على الصعيد الأوروبي. يضاف لذلك رغبة الجزائر - وفق ما صرح به وزيرها للطاقة محمد عرفات، خلال شهر أكتوبر الماضي - في تحريك مشروع الأنبوب الذي يربط الغاز النيجري بالجزائر عبر الصحراء، والذي أعلن عنه منذ 1999، وظل يراوح مكانه منذ ذلك الحين. 

تحت شعار الاستثمار في قارة الاقتصاد المستقبلي، واقترابا من مصادر واعدة للطاقة، قررت روسيا الدخول بقوة في القارة الإفريقية من بوابة الأزمات مستفيدة من تجربتها في ليبيا، ونجاحها في المنافسة بوسط إفريقيا، وفشل فرنسا في مالي، فقررت دعم عاصيمي غويتا لتنفيذ انقلابه الأخير، ووفرت له البديل العسكري عن قوتي "برخان" و"تاكوبا"، ودعمت مضايقته لفرنسا حتى أخرجتها عسكريا ودبلوماسيا من مالي، مكررة تجربتها معها في جمهورية إفريقيا الوسطى. 

هذه العوامل الجيو - اقتصادية، مضافا إليها طموح توسعي متزايد للرئيس بوتين، هي ما يمكن أن يفسر الحضور الروسي المتنامي بمالي.
 
هل تصعد فاغنر في الساحل؟ 
ما من شك أن العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على روسيا بسبب حربها على أوكرانيا أوجعت روسيا، وستضعف اقتصادها وتحد من نفوذها. ومن شأن هذه الحرب الاقتصادية أن تدفع روسيا للتفكير بردود فعل ضد المصالح الاقتصادية الغربية في العالم، بل إن الرئيس بوتين أعلن رسميا أن روسيا سترد بقوة على القرارات البريطانية الموجعة اقتصاديا.  

تتزامن الأحداث الأخيرة في المنطقة مع وجود وزير الدفاع المالي العقيد ساديو كامارا وقائد هيئة الأركان الجوية الجنرال آلو بوا ديارا في زيارة "لم يعلن عنها لروسيا". يوصف الرجلان بأنهما مهندسي علاقات مالي مع روسيا، كما توليا تنسيق ملف انتشار فاغنر في الشمال المالي. وقد وصلا موسكو في وقت تقترب فيه من إكمال الأسبوع الثاني لحربها في أوكرانيا. وهي حرب من غير المستبعد أن تتحول إلى حزب استنزاف لتوجيه صفعة لطموحات الرئيس بوتين المتجددة، ويشكل الاقتصاد أحد الأسلحة الفاعلة للجم هذه الطموحات.

فهل ستخطط روسيا عبر فاغنر مالي لإعاقة مشروع BP البريطانية لاستغلال احتياطي الغاز في موريتانيا والسنغال عبر جر المنطقة للعنف من خلال أعمال استفزاز عبر الحدود، وتدبير عمليات تصفية للمدنيين مثل تلك التي راح ضحيتها الآن نحو عشرين مواطنا موريتانيا لقوا حتفهم خلال أسابيع قليلة على أيدي عناصر من الجيش المالي المدعوم روسيا.  

يبقى التوجس واردا من أن يشكل إعلان شركة BP رسميا سحب استثماراتها الضخمة في روسيا، بالتزامن مع إعلانها توجيه مزيد من الجهود لتسريع استغلال حقلي "بير الل" و"احميم" على الحدود الموريتانية السنغالية، دافعا  لرعاة فاغنر لاستخدامها في توتير الإقليم؟ 
 
أتمنى أن لا يتم ذلك.

 

سبت, 12/03/2022 - 10:05