ألم يحن الوقت لإصلاح النظام الدولي؟

حميد الكفائي

الحرب الروسية الأوكرانية كشفت خللا كبيرا في النظام الدولي الحالي، الذي لم يتطور منذ تأسيسه عام 1945، إثر انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وأبرزت خطورة بقاء هذا النظام على الأمن والسلم العالميين، وضرورة إصلاحه وتأسيس نظام دولي جديد.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، قرر المنتصرون أن أفضل وسيلة لتجنب الحروب هي إنشاء هيئة دولية جديدة لحل الخلافات والعمل على منع اندلاع الحروب، بعد أن عجزت "عصبة الأمم" عن لعب هذا الدور.

وفي نيسان/أبريل من عام 1945، عُقِد مؤتمر سان فرانسيسكو على مدى شهرين متواصلين، للتباحث في هذ المسائل. وفي الرابع والعشرين من أكتوبر، أُعلن عن ميثاق الأمم المتحدة الذي وقعه ممثلو 50 دولة، بينها الدول الخمس الكبرى التي شكلت مجلس الأمن الدولي.

وفي عام 1946، أعلنت "عصبة الأمم"، التي تأسست عام 1919 في أعقاب الحرب العالمية الأولى، عن حل نفسها وتسليم ممتلكاتها وأرشيفها للهيئة الدولية الجديدة.

وفي كلتا الهيئتين، استُخدمت كلمة "أمم" للتعبير عن الدول، والحقيقة أنهما تشكلتا من دول، وليس أمما، إذ لم تُقبل في عضويتهما سوى الدول، وكلمة (nation) الإنجليزية، وكذلك الفرنسية، تعني دولة أيضا، بينما كلمة "الأمة" العربية، لا تعني دولة، وهناك فرق كبير بين "الأمة" و"الدولة". هناك أمة لها عدة دول، مثل الأمم العربية والإنجليزية والإسبانية والألمانية والفرنسية والتركية. بينما توجد دول تضم عدة أمم، مثل بريطانيا وبلجيكا وسويسرا والهند وإندونيسيا وإسبانيا والعراق وإيران وأفغانستان.

وبعد تشكيل مجلس الأمن، من 15 دولة، خمس منها دائمة العضوية، وتتمتع بحق النقض (الفيتو)، وهي الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا وجمهورية الصين (الوطنية)، التي حلت محلها جمهورية الصين (الشعبية) عام 1971، بدأت الأمم المتحدة بالنمو والتطور وأخذت تتبنى قضايا جديدة بمرور الزمن، لم تكن ضمن ميثاقها الأصلي.

لقد تغير العالم تغيرا جذريا منذ ثلاثة عقود على الأقل، وبرزت قوى تستحق أن يكون لها دور في إدارة الأزمات العالمية وإيجاد الحلول لها، من أجل ترسيخ الاستقرار وتجنيب العالم الحروب والكوارث، بينما اضمحلت قوى كانت مهيمنة في زمن مضى، ولم يعد مناسبا أن تبقى تتحكم بالعالم لمجرد أنها تمكنت من الحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن في لحظة زمنية نادرة.

بريطانيا وفرنسا وروسيا مثلا، لم تعد بالقوة والأهمية التي كانتها سابقا، لكنها بقيت تتحكم بالقرارات الدولية المهمة، في وقت تجاوزتها دول أخرى في القوة الاقتصادية والعسكرية، مثل ألمانيا واليابان، وأصبحت الآن أهم وأكثر فاعلية في المجتمع الدولي من الدول السابقة التي مازالت تضطلع بإدارة المجتمع الدولي عبر عضويتها الدائمة في مجلس الأمن.

الدول التي خسرت الحرب، وهي ألمانيا واليابان وإيطاليا والدول الأخرى المتحالفة معها، لم تُشرَك في النظام الدولي الجديد عام 1945، عقابا لها على إشعال فتيل الحرب، وكونها خاسرة وضعيفة، بل فُرضت عليها قيود صارمة، منها عدم السماح لها بالتسلح، إضافة إلى إقامة قواعد عسكرية على أراضيها للدول المنتصرة، خصوصا الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.

الوضع الآن مختلف تماما، فقد نمت هذه الدول وغيرها اقتصاديا وتطورت صناعيا وتمكنت سياسيا، وتغيرت أنظمتها السياسية، وبعدما كانت تشكل خطرا على السلم الدولي، أصبحت تساهم بفاعلية في الاقتصاد العالمي، لما تمتلكه من طاقات تكنولوجية وبشرية وطبيعية.

بينما أصبحت دول أخرى، عظمى سابقا، أقل قوة ومساهمة في الاقتصاد العالمي، ولم تعد بالأهمية التي كانتها في القرن المنصرم، لكنها مازالت تتصرف كدول عظمى بسبب عضويتها الدائمة في مجلس الأمن الدولي وامتلاكها حق النقض.

فرنسا، مثلا، تحاول أن تمثل المصالح الأوروبية، والاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص، في مجلس الأمن الدولي، وهذا الموقع يعطيها أهمية دولية أكثر مما تبرره الوقائع على الأرض، مثل القوة الاقتصادية. كما تسعى لأن تلعب دور الوساطة بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، وأحيانا، تجد في مناهضة بعض سياسات الولايات المتحدة، وسيلةً لإبراز دورها كدولة عظمى مستقلة في سياساتها!

في عهد الرئيس الفرنسي الراحل، تشارلز ديغول، وقفت فرنسا موقفا معاديا للولايات المتحدة، إلى درجة أن ديغول أمر البنوك الفرنسية ببيع الدولار بكميات كبيرة كي يضعف العملة الأمريكية، وفعلا ساهم ذلك في إجبار الولايات المتحدة على التخلي عن مقياس الذهب عام 1973. كما عارض ديغول انضمام بريطانيا للمجموعة الأوروبية، لاعتقاده بأنها قريبة جدا من أمريكا، وأنها ستكون عينا لها في أوروبا. ولم تتمكن بريطانيا من الانضمام إلى المجموعة الأوروبية إلا مطلع عام 1973، في عهد الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو.

والموقف الفرنسي ليس بعيدا عن الحقيقة، فبريطانيا منسجمة في معظم الأحيان مع السياسات الأمريكية، ونادرا ما تتعارض معها، بل أصبحت تستمد قوتها الدولية من التحالف مع واشنطن. وما يساعد في هذا التقارب هو العلاقة التأريخية والثقافية بين البلدين.

وقد سعت بريطانيا دائما لترشيد و"عقلنة" السياسة الأمريكية، وقد أشار الرئيس الأمريكي الأسبق، بيل كلنتون، إلى هذا الدور، في خطابه في مؤتمر حزب العمال عام 2002، الذي حضره كاتب السطور، قائلا إنه سعيد بقرب رئيس الوزراء البريطاني، توني بلير، من الرئيس جورج بوش، وإن هذا القرب يخدم مصلحة الولايات المتحدة ويجعل قراراتها الخارجية متوازنة ومبنية على أسس سليمة.

كما ساهم التحالف الأمريكي-البريطاني في تقريب وجهات النظر بين الولايات المتحدة والعديد من دول العالم. وتعتز بريطانيا بالعلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة، وتؤكد على دورها كموجه وناصح للولايات المتحدة، إلى درجة أن بعض المسؤولين الأمريكيين، مثل السفير زلماي خليل زاد، المندوب الأمريكي السابق في الأمم المتحدة، والسفير السابق في العراق وأفغانستان، يشعر بالضيق من هذا الموقف البريطاني "الأبوي" تجاه الولايات المتحدة، كما أشار في كتابه (المندوب-ص288)، قائلا إن الأمر يبدو وكأن بريطانيا تمثل "العقل الذي يسيِّر العملية، وأننا، نحن الأمريكيين، لا نمتلك غير العضلات التي تعمل بتوجيه بريطانيا"!

أما روسيا، فما زالت ترى في نفسها دولةً عظمى وندّاً للولايات المتحدة والصين، رغم أن أهميتها الدولية تقلصت كثيرا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، إذ أصبح اقتصادها أصغر حجما من اقتصاد كوريا الجنوبية، وهي تعتمد بنسبة 65% على إيرادات مبيعات النفط والغاز. لكنها ورثت من الاتحاد السوفيتي السابق عضوية مجلس الأمن، وترسانة الأسلحة النووية، الأكبر في العالم، وصناعة الأسلحة، التي مازالت تشكل موردا ماليا لها، كما ورثت العلاقات الدولية الواسعة، خصوصا الاقتصادية والتجارية منها.

وتستخدم روسيا عضويتها في مجلس الأمن للتأكيد على أهميتها الدولية، وخدمة مصالحها الجيوسياسية. فهي مثلا تجد في عداء الدول الأخرى، كإيران وكوبا وفنزويلا، للغرب مصلحة لها، وتسعى لتأجيج مثل هذا العداء، بل وإعاقة تحسن علاقات تلك الدول بالولايات المتحدة والعالم الغربي بشكل عام، كما اتضح في مسألة البرنامج النووي الإيراني، ففي الوقت الذي تخشى فيه روسيا من إيران النووية، فإنها تخشى في الوقت نفسه من تحسن علاقات إيران بالعالم الغربي لأن ذلك سيؤدي إلى ابتعادها عن روسيا.

لقد أصبح حق النقض الذي تتمتع به الدول الخمس الكبرى معرقلا للتقدم في مجال إيجاد الحلول للمشاكل الملِحَّة التي تواجه العالم. لا شك أن هناك الآن ضرورة لإعادة النظر في هذه الآلية، التي تمكِّن أيا من الدول الخمس من تعطيل القرارات الدولية المهمة. وقلما تستخدم الصين هذا الحق، إلا إذا تعلق الامر بمصالحها الاقتصادية ونفوذها في آسيا، لكن الولايات المتحدة وروسيا استخدمتاه بكثرة، رغم أنها تحاولان تجنب استخدامه، لأنه يظهرهما كمعرقلتين للقرارات الدولية.

استخدمت واشنطن حق الفيتو 82 مرة، واستخدمته روسيا 120 مرة، بينما استخدمته الصين 18 مرة فقط، وبريطانيا 29 مرة، وفرنسا 16 مرة. يبقى حق الفيتو أداة ضاربة لتعطيل القرارات التي تضر بمصالح الدول الخمس، ولكن على حساب مصالح باقي دول العالم الـ 188 الأخرى.

سعت الولايات المتحدة لإصلاح المنظمة الدولية وتطهيرها من الفساد مرات عديدة، حتى أنها امتنعت في التسعينيات عن دفع مساهمتها المالية السنوية للمنظمة، التي تشكل أكبر مساهمة بين دول العالم، 22% من ميزانية الأمم المتحدة السنوية، و28% من ميزانية قوات حفظ السلام، بينما تدفع الصين 12%، واليابان 8.5%، وألمانيا 6%. لكن مساعي الإصلاح لم تفلح، على الرغم من أن دولا كثيرة تدرك ضرورة هذا الإصلاح، لكن أولوياتها في الإصلاح متفاوتة. كما حجبت إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، التمويل عن عدد من المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة، بينما عززت إدارة بايدن من دعمها للمنظمة الدولية.

ومن أجل تحقيق مثل هذا الإصلاح الجذري للأمم المتحدة، تحتاج الولايات المتحدة، ابتداءً، إلى تعديل معاهدة الأمم المتحدة (الأمريكية)، وهذا التعديل يتطلب تصويت ثلثي مجلس الشيوخ، الأمر الذي يتطلب جهودا مشتركة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري لإقناع أعضاء المجلس بأهمية الإصلاحات للولايات المتحدة.

الهند واليابان والبرازيل وجنوب أفريقيا ومصر تطرح دائما توسيع مجلس الأمن، أملا أن تكون أعضاء فيه، بينما تطرح الولايات المتحدة تقليص المنظمات التابعة للأمم المتحدة، التي عادة ما تؤسس لهدف معين، وتخصص لها موازنة مناسبة، لكنها تستمر في العمل حتى بعد انتفاء الحاجة لها بسبب صعوبة الاتفاق على إلغائها.

لقد أصبح ضروريا للأمن والسلم العالميين أن يتغير النظام الدولي الحالي، خصوصا بعد أن اتضح عجزه عن إيجاد الحلول للعديد من الازمات، ومنها الازمة الحالية بين روسيا وأوكرانيا، التي تهدد باندلاع حرب عالمية ثالثة، ناهيك عن المشكلة الفلسطينية المتأججة منذ 74 عاما، والتي تسببت في خلق وتعقيد مشاكل أخرى كثيرة في منطقة الشرق الأوسط والعالم، مرورا بالحروب والمجازر التي ارتكبت في أفريقيا (رواندا)، ودول البلقان (البوسنة والهرسك وكوسوفو) التي لم تحل إلا عندما تدخلت الولايات المتحدة عسكريا.

ليس في مصلحة المجتمع الدولي أن تبقى دول مهمة اقتصاديا وعسكريا وسكانيا وجيوسياسيا، غائبة عن القرار الدولي بينما تبقى دول أخرى تتحكم بالنظام الدولي، وهي مازالت تعيش على أمجاد الماضي، واقفةً على أطلاله، حالمةً بإعادة هيمنتها المُضاعة.

دول مثل ألمانيا واليابان والهند والبرازيل وإندونيسيا وجنوب أفريقيا والسعودية ومصر وتركيا ونيجيريا والمكسيك، يمكن أن تساهم بفاعلية في رفد المجتمع الدولي بطاقة إيجابية جديدة وإمكانيات إضافية، لتحقيق السلم والاستقرار العالميين، وتجنيب العالم الحروب والأزمات.

المصدر: سكاي نيوز عربية

جمعة, 08/04/2022 - 16:27