الحب.. أول خلق الله

وفاء الرشيد

كان الإمام أبو حامد الغزالي يقول إن الفقه علم للدنيا وليس للآخرة، ذلك أنه وضع من أجل ردع الناس عن الظلم، وتأمين الحقوق والواجبات المقررة لصالح العباد وليس غرضه صدق العبودية والتقرب من الله وإخلاص النية، فتلك أمور روحانية عالجتها كتب قوت القلوب والآداب الشرعية والتصوف.

ما ذكره الغزالي في كتاب «إحياء علوم الدين» يحتاج اليوم إلى وقفة للتفكير والاستنباط بعد أن تغلب شكل التدين على روحه وأصبحت الطقوس هي معيار الدين الصحيح ولو كانت خالية من الروحانية الصادقة.

نحن اليوم نعيش بالأغلب تديناً شكلياً بكثير من المغالاة في المظاهر الجسدية، بعيداً كل البعد عن الروحانية الحقيقية، فأصبح التدين عند البعض نقاباً وإطلاق شعر لحية وانتهاجاً لخط متشدد وتنطعاً حذر منه الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا».

وهكذا غابت أبعاد الفرح والطمأنينة من ممارسة الدين، وتحول لدى الكثيرين إلى خطاب تفكيري عنيف يبرر القتل ورفع السيف باسم الدفاع عن الدين ونشره.

فعندما تغيب الروحانية الصادقة لا يبقى من الدين إلا هذا الجانب الحاد الصارم، وما أسرع ما يتحول المتطرف في العقيدة والتأويل إلى إرهابي قاتل، كما ظهر في التجارب الكثيرة التي مرت بها المجتمعات المسلمة في السنوات الأخيرة.

الغريب أن هذا الدين يتميز برحمانيته المؤسسة التي حصر فيها الله عز وجل مهمة النبوة بقوله: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين». فالعالمون تشمل عموم البشر بل سواهم من الكائنات، وذلك هو أبلغ دلالات اللطف الشامل الذي يعامل به الخالق خلقه.

لقد تم تغييب كل معاني الرحمة والمودة والقرب التي تدخل في صفات الله التي هي إطار علاقته بالبشر، وقدم الدين لدى قطاع واسع من الفقهاء والدعاة في شكل مسلكيات تحرم أوجه الجمال والحب في الوجود.

ما أحوجنا ونحن في هذا الشهر الكريم إلى العودة إلى منابع الروحانية المشرقة في ديننا، فننتزعه من مخالب دعاة الفتن والتشدد، أعداء الحياة والسعادة.

الروحانية كما نفهمها تعني أموراً ثلاثة أساسية هي:

- النظر إلى علاقة التدين بكونها مظهرا للعطف الإلهي على الإنسان الذي هو حصيلة نفخ الروح الإلهية وهو مستودع الأمانة الربانية وخليفة الله في أرضه. فالتدين الحقيقي لا يستقيم دون هذه النزعة الإنسانية العميقة.

- ربط أحكام العبادة بمقاصدها الروحانية العليا بدل اعتبارها طقوسا شكلية مجردة. الصلاة مثلا هي مظهر القرب الإلهي والإنسان كما في الحديث يكون أقرب لحظات حياته من الله في وضع سجوده. والصوم هو المجاهدة من أجل بلوغ سر العبودية الأبعد الذي عبر عنه الحديث الشريف بقوله «الصوم لي وأنا أجزي به». والحج هو مسرح التجربة التوحيدية الأولى وهو التمثيل المادي للحضور الإلهي على الأرض. وكل العبادات يمكن أن تقرأ من هذه الزاوية فتكتسي معاني روحانية نادرا ما يتم التنبه لها.

- ربط الدين بالحياة، ففي الإسلام الأصل في الأشياء الإباحة والحظر هو الاستثناء، ومن مقاصد الشرع إسعاد الإنسان وتمتعه بالنعم والمتع الدنيوية. وعندما ينطلق الإنسان من هذا التصور يرى الفضل الإلهي في المنح والكرم الإلهي، ولا شك أن عبادة الشكر والرضا هي أسمى عبادة لأنها داخلة في قوله تعالى «ولذكر الله أكبر».

كان الفيلسوف الهندي محمد إقبال يقول إن مستقبل الإسلام منوط بروحانيته التي طمستها دعوات أهل السياسة والأيديولوجيات..

استعيدوا روحانيتكم؛ لتستعيدوا دينكم، فالحب أول خلق الله.

* نقلا عن "عكاظ"

سبت, 09/04/2022 - 10:40