رغم أن السياسة لم تكن تاريخياً منصفه ولن تكون في يوم من الأيام، تبقى الحقائق ثابته وإن ظلمها المؤرخون والكتاب وصّناع الرأي العام، فالشمس لا تغطى بغربال، والحقائق الراسخة لا تلغيها الادعاءات مهما ترددت وتم تداولها. لنكن منصفين ولنضع الموقف الأردني من القضية الفلسطينية في كفة، ومواقف الآخرين في كفة آخرى، ولست بصدد وضع النتائج أو حتى التلميح اليها، بل سأترك لمن يسعى إلى الحقيقة لحظة تفكير يخلص بعدها الى استنتاجه الخاص في قرارة نفسه.
نافلة القول أن الأردن لا يملي موقفه على أحد، لا عندما يتعلق الأمر بالصدام مع اعتى المتطرفين في اسرائيل ولا عندما تهدأ العاصفة بين الأردن والحكومات الاسرائيلية، ولم تهدأ يوماً منذ تولي جلالة الملك عبدالله سلطاتة الدستورية، الاحتلال قائم اذن العلاقات سيئة هذا هو جوهر العلاقات الأردنية الاسرائيلية، هم في اسرائيل يعرفون ذلك ونحن في الأردن نتمسك بمواقفنا ومشاعرنا عند هذا الحد، والسبب بقاء الاحتلال وغطرسة الحكومات الاسرائيلية واعتداءاتها على الفلسطينين وعلى المقدسات، كل ما في الأمر أن الأردن يهب نصيراً لشعب فلسطين الذي ترك وحيداً في مواجهة الة القتل الاسرائيلية المدعومة من القوة العظمى الاولى في العالم ومعها الاتباع الغربيون اصدقاء دولة الاحتلال.
لا مصلحة شخصية عندما يتعلق الآمر بالمقدسات وبالقدس اولى القبلتين، فهذه المقدسات لا يملكها الملك عبدالله ليدافع عنها باقصى ما يملك من قوة دبلوماسية وحنكة سياسية وعلاقات مع قادة العالم، المحصلة لا زالت المقدسات صامده ولم تقم اسرائيل ببناء الهيكل على انقاضها كما تخطط منذ عشرات السنين، المقدسات- وبالذات المسجد الأقصى- ملك للامة الاسلامية كلها وزعماء الامة مسؤولون أمام الله وامام شعوبهم وامام التاريخ عن حمايتها ورعايتها، ولكن ما الذي يحدث على أرض الواقع، الأردن يتحمل المسؤوليات كلها تجاه المقدسات، المسؤلية السياسية، والأمنية والمالية، فأكثر من ربع موازنة وزارة الاوقاف الأردنية يذهب لكي تبقى المقدسات برعاية أسلامية أردنية هاشمية، هل يقدم المسلمون شيئاً للمساهمة في هذه الحماية، الجواب- على حد علمنا- لا، نحن من يدفع، ونحن من يقف نداً لاسرائيل غير مبالين بالتبعات، واحياناً نغامر بعلاقاتنا مع الولايات المتحده من أجل هذه الحماية والتصدي لاعلان القدس عاصمة لاسرائيل بقرار أمريكي، الأردن لا ولن يواجه الولايات المتحده وليس بقادر على ذلك، لكن الأردن يناور ضمن المتاح له من أوراق حتى لا تمر القرارات التي تخدم الاحتلال مروراً يسيراً، جلالة الملك هو الأكثر تأثيراً عندما يخاطب الحكومات والمجتمعات الغربية لشرح الابعاد الخطيرة لبقاء الاحتلال ومخططات الاحتلال الاسرائيلي واجراءاته العدائية ضد الانسان والمكان لتذكيرالامريكيين والدول الداعمة لاسرائيل بمخاطر هذا الدعم وآثاره على القضية الفلسطينية، ومسيرة السلام.
دعونا نتفكر قليلاً فيما يقوم به الاردن وما يفعله جلالة الملك على المستوى الدولي، ولنتوقف قليلاً عند ما يفعلة الآخرون لنفس الهدف وبنوايا طيبة دونما شك في ذلك، فمن من زعماء العالم لديه القدرة على جعل ممثلي الدول الأوروبية، يقفون أكثر من عشر مرات للهتاف له ولمضمون خطابه وهو يتحدث عن القضية الفلسطينية ومسيرة السلام، ومن هو الزعيم الذي ربط بذكاء بين الارهاب واستمرار الاحتلال الاسرائيلي للاراضي الفلسطينية والانتهاكات الاسرائيلية للمقدسات الاسلامية والمسيحية، ومن هو الزعيم الذي واصل الاصرار على حل الدولتين وقيام دولة فلسطينية على حدود 4/ حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية !؟
لقد تراجع العرب عن لاءاتهم الثلاث منذ قمة الخرطوم 1967 وحتى عام 1991 أي بفارق 24 عاماً واستبدلوها بالاعتراف، والصلح، والتفاوض، بل وقبول الامر الواقع كما فرضته أسرائيل، لكن الملك عبدالله لم يتنازل قيد امله عن ( لائه ) الثابتة ( لا بديل عن حل الدولتين ) منذ تسلمه سلطاته الدستورية عام 1999 والى اليوم، اي بنفس الفارق الزمني تقريبا ، وظل متمسكاً بها رغم المغريات الكثيرة، ورغم الضغوطات القاسية، ورغم حاجة الاردن الى الولايات المتحدة راعية اسرائيل وحاميتها .
لنتحاسب وليضع كل منا بيناته على الطاولة، فبينما يحشر الاردن اسرائيل في الزاوية باصرارة على حل الدولتين تجد دولة الاحتلال لها منافذ في البدن العربي، وبينما يعاني الاردن جراء تمسكه ب (لائه) الثابته، تزدهر دولة الاحتلال وتستقطب استثمارات العرب ومساعدات الغرب وتاييده، كيف يمكن لعاقل أن يفهم هذه المعادلة العجيبة، وكيف للمجتمع الدولي أن يكيَف العدالة الانسانية على مقاس المحتل متجاهلاَ حقوق شعب من عشرة ملايين لاجئ ونازح يتحمل الاردن مصيرهم على كاهله!؟ في هذا الركن الخانق يقف الاردن، وفي حقل الالغام هذا يعمل الملك عبدالله، رغم معاناة الأردن اقتصادياً ورغم شح المياه، واعداء يتحينون الفرصة لتفخيخ انجازات البلد وطابور خامس يسمم الاجواء بالتشكيك تاره وبالتخوين تاره اخرى! ما العمل؟
يمكن للاردن أن يكون البلد المدلل اذا اقدم على اعلان واحد، أن يحايد تماماً وأن يلتفت الى همومه الداخلية متجاهلاً القدس والمقدسات وحقوق الشعب الفلسطيني، وبامكانه أن يضاعف حجم المساعدات التي يحصل عليها لو قرر أن يترك قضية الامه العربية واكتفى بحصته منها، تخيلوا كيف سيكون حالنا لو اغلقنا باب الخلافات مع اسرائيل وفتحنا بقية الابواب على
مصاريعها، الحقيقة لا احد يريد أن يتخيل ذلك، فالحفاظ على المبادئ والكرامات لا بد أن تكلف اصحابها الكثير، والاردن الذي يتوسد المعاناة ويتكئ على الجرح لا يقبل الا أن يبقى شامخاً وإن بدا للآخرين مختلفاً بشجاعته وبقدرته على التعايش مع كل هذا الخذلان الذي يحيطه به من كل جانب.
نقلا عن رأي اليوم