دراجة "ابن بطوطة".. من المغرب للصين في 100 يوم

حدّثتنا نجاة بأن "طفلها الصغير فقد حيويته ولم يعد مشاركاً في صفّه وأنشطته المدرسية.. قلقت معلّمته واتصلت بها". كانت نجاة حينها "تتحمّل مسؤولية البيت وأطفالها الذين ينتقلون من القرية إلى مدرسة المدينة، فبدا لاحقاً أن طفلها متأثر بغياب والده الذي لم تستطع أن تمنعه من تحقيق حلمه في الوصول إلى الصين". فبعد رحلة دامت 97 يوما على دراجة هوائية تعمل بالطاقة الشمسية، عاد المهندس الميكانيكي يوسف الهوّاس (والد الطفل) منذ أيام إلى طنجة برفقة صديقه جباري، بعد أن خاضا مغامرة شائقة وشائكة من طنجة إلى مدينة كانتون في الصين.

يقول الهوّاس إنه "أمضى سبعة أعوام وهو يصنّع درّاجات هوائية بأدواته الخاصة، لكن صداقته بمحمد جباري عبر فيسبوك غيّرت مجرى مشروعه، عندما طلب منه جباري بناء درّاجة تناسب إعاقته". وكانت حصيلة عمل السنوات أربعَ درّاجات عادية وثلاثا خاصة بالمعاقين، تسير بعجلتين طوّرها عاماً بعد عام لتلائم مختلف التضاريس.

محمد جباري لم تمنعه الإعاقة من خوض مغامرة شاقة إلى الصين (الجزيرة)

يلعب محمد جباري الذي أصيب بشلل الأطفال، مع "أبناء البوغاز لفريق الكراسي المتحركة" لكرة السلة، وحصل على ألقاب حطّمت أرقاماً قياسية، ورغم أنّه ما زال يلعب للفريق فإنه وجد في الدراجة عالماً مختلفاً دفعه لاكتشاف أشياء جديدة.

لطالما كان يرغب في دراجة خاصة، لكنّه صرف نظره عنها بسبب ثمنها الباهظ في المغرب والذي يقدر بخمسة آلاف دولار، إلى أن تحدث إلى الهوّاس عبر "فيسبوك" طالباً منه تصميم درّاجة تناسبه، فوافق الأخير دون مقابل، وبهذا سطع اسم جباري كمعاق يخوض بدرّاجته تحديات غير مسبوقة، مستعيناً بطاقة يديه وبمساعدة صديقه الهوّاس.

استطاع الهوّاس بالفعل أن يصنع درّاجته التي أهلته لخوض التحدي الذي انطلق من ليونالفرنسية في يونيو/حزيران الماضي إلى كانتون الصينية بعبور 12 دولة برّاً بواسطة الدرّاجة.

كان جباري مع الهوّاس قد خاضا تحدّيين مغربيين سابقين، أحدهما من الفنيدق شمالي المغرب إلى العيون في جنوبه، وآخر من الرباط إلى كلميم، وكان جباري المُعاق الوحيد بينهما، لكنّه خاض التحدييْن بعزم ولم ينسحب.

الفرق المشاركة في مسابقة الرحلة الطويلة (الجزيرة)

فكّر الهوّاس في خوض تحدي الرحلة إلى الصين وحيداً، لكن بعد أسبوعين أخبر المنظمين أن صديقه جباري سيرافقه.. رحّبوا بفكرته لكنهم حذروه من مخاطرها، إلا أن الهواس مضى في كلامه وصمّم مقعداً خلفياً يناسب إعاقة جباري الذي وافق بدوره دون تردد على خوض الرحلة.  

انطلق الرحالان بدرّاجة "ابن بطوطة" -كما فضّل الهوّاس تسميتها- نحو مدينة ليون عبر طنجة، ومن هناك انطلق التحدي الفعلي وصولا إلى كانتون.

تتكون الدرّاجة من ألواح شمسية كسقف بمساحة 2.5 متر وعرض 99 سم، وبطارية خفيفة حتى يظلّ التحدي رياضياً وتقنياً يعتمد على طاقة البدن وطاقة الشمس التي تخزّن في بطارية ثم تنتقل وفق شروط المسابقة واحتياجهم لها بكمية محددة إلى المحرك الكهربائي لتساعدهم على الصعود أو السير في طرق وعرة.

يحدثنا جباري أن "الناس حاولوا إحباطهم قبل الشروع في رحلتهم"، واستطاع لاحقاً أن يؤكد لهم مقولته بأنهم كمعاقين "قادرون على صنع المعجزات". لكنّه يتواضع في الحديث عن الصعوبات التي واجهها أمام صعوبات الهوّاس البدنية والمعنوية، والذي "أمضى وحده عاماً في مشاكل البحث عن التمويل والتأشيرات والدفع من ماله الخاص".

المغامران المغربيان عانا كثيرا في صحراء كزاخستان الشاسعة (الجزيرة)

أنهى الهوّاس درّاجته قبل يوم من مغادرتهم، وحصل على منحة سفر من الوكالة المغربية للطاقة الشمسية والمعهد المغربي لأبحاث الطاقة الشمسية. ودع الصديقان طنجة من أمام ضريح ابن بطوطة كأول عربيين ينخرطان في تحدّ يضم 43 مشاركاً عالمياً، فيه أربع درّاجات مصنوعة يدوياً.

اختار الرحالان المسار الجنوبيّ الأصعب عبر كزاخستان للوصول إلى الصين، حيث احتاجا "تأشيرة" لعبور روسيا وأوزبكستان، مما اضطرهما لقطع 4000 كلم داخل كزاخستان، منها 400 كلم في منطقة صحراوية جرداء.

ما زال الصديقان بعد عودتهما إلى طنجة منذ أيام يعتقدان أنهما مرّا بـ"حلم" نظرا للمشقة التي نالاها طوال الرحلة. وكان الهوّاس يقول لجباري "رحلتنا قدر، إمّا أن نصل أو نموت"، فيصاب جباري "بذعر كان يدفعه للنطق بالشهادة يومياً". 

وكما كان متوقعا فالرحلة شاقة جسديا ومرهقة نفسيا، فلا مجال للخطأ في الطريق، وعاشا ضغط التخطيط للرحلة يوميا تحسبا للخطر -كخبز يوميّ- الذي بدأ عندما صعدا جبلا بارتفاع 2700 مترا في "شيمونيه" الفرنسية باتجاه إيطاليا، وقد بذلا فيه مجهوداً عضلياً مرهقاً بعد أن فرغت بطاريتهما في جوّ بارد جداً، مما اضطرهما لتوقيف سيارة لتقلّ جباري إلى القمة ويَجدا فندقاً قبل التاسعة مساءً وفق شروط المشاركة.

بعد رحلة غنية بالمغامرة والإثارة وصل المغربيان إلى الصين (الجزيرة)

وفي الطريق مر المغامران بمحطات عديدة عاشا فيها المعاناة والخوف والمرض، فقد صادفا آلاف الشاحنات تسير بسرعة عالية في أنفاق البحر الأسود وتركيا، وهما يسيران بسرعة 25 كلم فقط، فتتفاجأ بهما الشاحنة كابحة سرعتها، مما أفقد جباري أعصابه، لكنّ الهوّاس أصيب بنزلة برد حادة سعل دماً بسببها، إلا أن تركيًّا جمعته مع الهوّاس صداقة على "فيسبوك" رافقهما لمدة أربعة أيام، وسهّل لهما رحلتهما عبر تركيا.

وفي صربيا وقفا على آثار الحرب على الجدران، وتسمما في تركيا وكزاخستان من وجبات المطاعم، وتوقفت بهما الباخرة ثلاثة أيام وسط بحر قزوين، وعشرة أيام من المطر المتواصل في تركيا، وتعرّضا للجوع والعطش في كزاخستان.

يقول الهواس "هيّأ الله لنا إخوة على طول التحدي، كنّا نتواصل معهم بالابتسامة"، كما تمكّنا بالتواصل مع السكان أو سائقي الشاحنات من الاستدلال على طرق سهلة، وبعضهم قدم لهما المال، وآخرون استضافوهما للمبيت، كما حدث لهما في كرواتيا عندما استضافهما شخص في فندقه على نفقته الخاصة.

مخاطر كثيرة تعرض لها المغامران في البرية فضلا عن الأمراض (الجزيرة)

وفي كزاخستان وجدا كرَماً لافتا من أهل البلاد، حيث أمضيا فيها شهراً كاملا نظرا لعظم مساحة البلاد، وصادفهما خلالها شخصان في الصحراء أنقذاهما من عاصفة رملية تبعتها عاصفة ماطرة، واستضافاهما في الفندق.. وكانا دوماً يتوقفان لإشباع فضول الأطفال والتقاط صورة تذكارية.

عندما وصلا حدود الصين، أوقفتهما شرطة الحدود الكزاخية ولم تدعهما يمران.. يقول جباري "أصيب الهوّاس بالهستيريا"، ويضيف "لم نتوقع هذا التأخير، ودفعنا غرامة بسبب إشكالية إدارية في التأشيرة"، لكنّهما بمساعدة أصدقاء عرب يعيشون في كزاخستان تمكّنوا من الوصول إلى كانتون بعد 97 يوماً، وكانت دراجة الخمسينيّ الهوّاس الذاتية الصنع، هي الوحيدة التي بلغت المحطة الأخيرة.

طوّر الهواس دراجته الخاصة لتحمل معه صديقه جباري في رحلة المشقة (الجزيرة)

 

المغامران وجدا ترحيبا وكرما كبيرين في المدن التي مرا بها (الجزيرة)

 

رفع المغربيان علم بلدهما في المدن التي مرا بها في الرحلة الطويلة (الجزيرة)

 

 

 

المصدر : الجزيرة

أحد, 14/10/2018 - 13:59