الثورة تولد من رحم الأحزان

نسرين عجب

"نسعى لوظيفة دولة، فموظفو الدولة هم أكثر الناس استقراراً وأماناً مالياً في هذا البلد"... هذا كان حلم الكثير من اللبنانيين الذين يبحثون عن الأمان المعيشي في بلد يفتقد لأدنى مقومات الأمان... هذا كان طموح شباب يتخرجون من الجامعات لأنه حسب المفهوم الاجتماعي "موظف الدولة" هو أكثر الأشخاص المحصّنين بالاستقرار المادي. 

إلا أن السياسيين في بلدي قرروا حتى تحطيم هذا الحلم المحدود الأفق، تحت ذريعة التقشف لسد عجز مديونية الدولة؛ دولة أفلسوها بتسيّبهم وبدل أن يعالجوا أسباب العجز، والذي يبدأ بصفقاتهم بالمليارات ولا ينتهي بالتهرب الضريبي والرواتب الخيالية لبعض أتباعهم... يبحثون عن كبش فداء، ومن غير هذا الشعب الفقير نفدي به الوطن! 

نغضب، نلعن، نثور وأقصى ما يمكننا فعله كتابة تغريدة تعبّر عن غضبنا، وإذا أثقل أحدنا العيار على الساسة ومسّهم كلامه قد يدّعون عليه بجرم القدح والذم ويستدعونه للتحقيق... نعم نحن يحقّق معنا على تغريدة وهم لا يحقق معهم على بلد سرقوه بجوعهم المرضي للمال والسلطة!

بعضنا نزل وينزل إلى الشارع، ولكن في الحقيقة زواريب السياسة تفرقنا أكثر من ما يجمعنا شارع وجعنا على يومياتنا التي حولها السياسيون إلى مقيتة، مقيتة في بلد أصبح جلّ هموم المواطن فيه أن يحمي لقمة عيشه ليبقى على قيد الحياة. 

ألا يحق لنا نحن الشعب، الذي ينام ويستفيق على فضائح سرقات السياسيين، أن ندّعي عليهم لأنهم نهبوا مقدرات هذا البلد على مدى سنوات وسنوات؟ ألا يحق لنا أن نقاضيهم لأنهم بدل أن يتحملوا مسؤولياتهم، عندما جفّ المنبع صاروا يولولون "سينهار الاقتصاد"، وضعوا حصناً منيعاً على مداخيلهم ومخصصاتهم وترفهم على حساب الخزينة، ورفعوا شعار مكافحة الفساد على الشعب... لا يخجلون حتى! 

نعم من الشعب، هناك من يسرق الكهرباء، كما وصفت الوزيرة العتيدة، وهناك من يتهرّب من الضرائب ويخالف ويرشي ليحصل على خدماته بسرعة، وأحياناً بطرق غير قانونية؛ ولكن الفضائح كشفت أن بعض المسؤولين أبرموا صفقات بالمليارات على ظهر الكهرباء وغيرها، وأيضاً هناك مسؤولين يخالفون ليس فقط القوانين بل الأعراف الأخلاقية برمتها وأوصلونا إلى الحال الاقتصادي المتردي الذي نتخبط فيه. ومع أن الفقر قد يكون الدافع في الكثير من مخالفات الشعب، إلا أن هذا الشعب يُحاسب أكثر من المسؤول المتخم بجشع المال والسلطة!

خرج وزير المال يطالعنا بفضائح أبناء السلطة، عرض لائحة أرقام تظهر الهدر والسرقات في القطاع العام، خبايا لم نكن نعرفها، ومن المؤكد هناك خبايا أكثر. حدّد بالأرقام والمواقع هدر بالميارات: مسؤولون يقبضون رواتب عدة، موظفون يتقاضون رواتب خيالية وتحفيزات تصل إلى الخمسين والستين مليون ليرة (أي ما يعادل 40 ألف دولار أميركي) شهرياً، قطاعات متوقفة منذ زمن ولكن عداد الرواتب فيها لا يزال شغالاً لموظفين وهم في منازلهم، والسخرية أنه بالأمس القريب أُعلن عن توجّه لرفع هذه الرواتب... وغيرها وغيرها من المحسوبيات والزبائنيات السياسية التي تخدم السياسيين ومصالحهم الانتخابية!

طرح وزير المال جملة قرارات لمعالجة مزاريب الهدر تلك، والمفارقة أن أي من تلك القرارات لم يقترب من مخصصات أبناء السلطة، مع العلم أنه في رد على سؤال أحد الحاضرين عن المسؤول عمّا وصلنا إليه قال: لا أحد فوق الغربال، كلنا مسؤولون، كل شخص كان في الحكم مسؤول. 

هذا اعتراف صريح وواضح، ولكن إلى ماذا أفضى؟ لا شيء؟ لم نسمع أي تحرّك لأي جهة رقابية لتحاسب! ما سمعناه قرارات تطال الناس الذين استضعفوهم وما زالوا، علماً أن القاصي والداني بات يعرف أن رائحة الفساد تفوح بالدرجة الأولى من الطبقة السياسية الحاكمة؛ طبقة لا تستحي وبكل وقاحة ترفع شعار مكافحة الفساد. 

لا يجرؤ أي مواطن أن يكون فاسداً إن كان يعرف أنه سيحاسب حقاً. منذ مدة، ليست ببعيدة، صرّح فنان لبناني كان يعيش في كندا أن العقاب الذي يوجبه القانون الكندي هو الذي كان يجبره على الالتزام بذلك القانون، وذلك ينسحب على كل المواطنين الأجانب. نعم ألم الحساب يجعل الانسان يفكّر جيداً قبل أن يخالف، والفرق بيننا وبين الدول المتقدمة ليس في وجود القوانين بل في تطبيقها. قد تكون بعض قوانيننا بالية عافها الزمن، ولكن هناك بعض القوانين التي قد يفي تطبيقها ببعض الضبط.

السلطة تتمادى ولم يعد أمام الناس سوى الشارع الذي اختاروه ليكون الساحة التي يصرخوا فيها وجعهم... الساحة ليرفضوا تصفية حسابات السرقة على حسابهم... قرروا النزول إلى الشارع، والشوارع قالت الكثير حول العالم، فإن "الثورة تولد من رحم الأحزان"!

إيلاف

خميس, 02/05/2019 - 15:04